يمتلك العرب منذ أزمنة بعيدة الكثير من أوراق ما بات يطلق عليه منذ عقود قليلة تعبير «القوة الناعمة»، وإن كانوا أحياناً لا يعون ذلك أو يدركونه على النحو الكافي واللازم، كما أنهم في الكثير من الأحوال لا يوظفونه على الوجه الأكمل بما يحقق مصالحهم من جهة، وبما يساهم في نقل صورة إيجابية عنهم وعن مجتمعاتهم وثقافتهم وتقاليدهم وعاداتهم وأحوالهم للعالم الخارجي فيما يتخطى حدود الوطن العربي الكبير من جهة أخرى. ويطول الحديث إذا عدنا إلى تاريخ العرب مع مكونات القوة الناعمة التي يملكونها ولا يستغلون تواجدها بأفضل شكل ممكن، ولكننا لن نضرب هنا في أعماق التاريخ لتتبع هذه المسيرة، بل سنكتفي بضرب أمثلة شديدة المعاصرة، عشناها في الفترة القصيرة الماضية أو نعيشها حالياً. ففي الفترة الأخيرة، حصل فيلم «كفر ناحوم» للمخرجة والفنانة اللبنانية متعددة المواهب «نادين لبكي» على جائزة لجنة التحكيم من مهرجان «كان» السينمائي الدولي السنوي في دورته الأخيرة لعام 2018، وكان ذلك بمثابة شهادة عالمية من واحد من أهم المهرجانات السينمائية في العالم وأكثرها مصداقية ليس فقط بحق السينما اللبنانية، بل بحق السينما العربية ككل. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي يحصل عليها فنان أو عمل عربي على جائزة من مهرجان «كان» السينمائي الدولي، وكان منهم في السابق على سبيل المثال لا الحصر، المخرج والممثل المصري العربي الراحل يوسف شاهين، والذي حصد جوائز من نفس المهرجان من قبل في أكثر من مناسبة، وكذلك المخرج التونسي عبداللطيف كشيش الذي حصد فيلمه «حياة أديل» جائزة السعفة الذهبية لمهرجان كان عام 2013، ولكننا إذا انتقلنا إلى الواقع فمن الواجب أن نطرح التساؤل التالي: هل حقاً استفاد العرب من هذه الجوائز من خلال توظيفها بما يسمح لهم بفتح نوافذ للفرص لهم لتعريف بقية العالم، خارج حدود الوطن العربي الكبير، بأنفسهم وبثقافتهم وبتاريخهم وبحاضرهم وبعطائهم الحضاري من خلال إعطاء صور إيجابية تطيح بالأنماط السلبية المنتشرة عنهم في المجتمعات غير العربية، أو في عدد كبير منها على الأقل، وكذلك توظيف نفس تلك الفرص للترويج لمصالحهم، الاستراتيجية والاقتصادية، من جهة وللنموذج الذي يمثلونه على الصعيد القيمي من جهة أخرى؟ وحتى إذا افترضنا أن الإجابة على السؤال السابق جاءت بالإيجاب، يكون السؤال المنطقي المترتب على ذلك هو: هل كانت هذه الاستفادة على مستوى الحدث وحسن توظيفه أم أقل من ذلك وأكثر تواضعاً؟ وهناك مثال آخر لا يقل أهمية، كما أننا نشاهده في هذا اللحظة تحديداً، وهو الخاص بمشاركة أربعة بلدان عربية في نهائيات كأس العالم لكرة القدم المقامة بروسيا الاتحادية، وهي الجمهورية التونسية والمملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية والمملكة المغربية، وهو حدث له دلالته على الصعيد العالمي، نظراً لأنه في نهاية المطاف فإن هناك بلايين البشر الذين يشاهدون فعاليات تلك البطولة في شتى أنحاء العالم نتيجة نقلها على القنوات الفضائية أو الأرضية، بخلاف مئات الآلاف الذين يشاهدونها على الطبيعة مباشرة في الملاعب المقامة عليها البطولة بالمدن الروسية المختلفة، وهؤلاء جميعاً ينتمون إلى مختلف الطبقات الاقتصادية والاجتماعية، كما أن لهم خلفيات ومستويات تعليمية متباينة ويستندون إلى مرجعيات ثقافية عديدة تختلف فيما بينها وهم أصحاب انتماءات عرقية وقومية تكاد لا تعد ولا تحصى وهم يتحدثون مئات، إن لم يكن آلافاً، اللغات، وهو الأمر الذي يفترض أنه يمثل فرصة لا يتكرر حدوثها إلا فيما ندر لإبراز أن تفوق العرب في رياضة كرة القدم، وهي بلا منازع الآن الرياضة الأكثر شعبية في الغالبية العظمى من أنحاء العالم، هو امتداد لإسهاماتهم في صناعة التاريخ الإنساني، ومن ثم المساهمة بدرجة أو أخرى في نقض الطرح السائد المستند إلى مقولة إن العرب قد يكونون أصحاب ماضٍ تليد في فترات زمنية سابقة، ولكنهم ليسوا طرفاً فاعلاً في عالمنا اليوم بل هم طرف مفعول به. إلا أن هذه الفرصة التي تمثلها نهائيات كأس العالم يجب ألا تنحصر في حدث رد الفعل أي نقض مقولة تسعى للنيل من العرب والتقليل من شأنهم ومن إسهامهم الحضاري للإنسانية وتشويه صورتهم، بل إنها فرصة مهمة توفر أيضاً إمكانية القيام بحدث الفعل وأخذ زمام المبادرة من خلال التخطيط والعمل الجاد لتقديم صورة حضارية عصرية ومشرقة عن المجتمعات العربية في شكل عام وعن الشباب العربي على وجه الخصوص. والمسألة المطروحة هنا ليست من قبيل الترف الفكري أو الثقافي للنخبة من المثقفين العرب، بل هي تكمن في جوهر الاحتياجات الملحة للشعوب العربية والمهام العاجلة التي على هذه النخب التعامل معها يداً بيد مع الشعوب، نظراً لأننا نشهد، ومنذ عقود، حملات، خصوصاً في العديد من البلدان الغربية ولكنها ليست مقصورة عليها، تعرض العرب للتشويه والإساءة والتقليل من الشأن، بل والتحقير والسخرية في حالات ليست بالقليلة، في شكل أصبح يعد في العديد من الحالات ممنهجاً ومنظماً ودورياً ومنتظماً، وبما ينفي عنه في العديد من الأحوال صفة المصادفة التاريخية أو افتراضات حسن النوايا ويقترب به في تلك الحالات إلى افتراض العمل المدروس والمخطط له بعناية. وبالتالي، وفي مواجهة هذه الحملات والمواقف، التي تتعزز كلما صعد اليمين المتشدد إما إلى كراسي السلطة أو إلى الدوائر المؤثرة في شكل مباشر على دوائر صنع القرار في البلدان غير العربية، فإن المطلوب من العرب البحث فيما يملكون من أوراق وتجميع تلك الأوراق التي تصلح من جهة للترويج لأنماط إيجابية لهم خارج حدود الوطن العربي الكبير، ومن جهة أخرى للتأثير وممارسة الضغوط على قوى معادية لهم أو منصاعة لقوى معادية لهم لتبني مواقف موالية للعرب أو على الأقل مواقف غير منحازة تجاههم. وتزداد هذه الحاجة ضرورة وإلحاحاً في ضوء كون المحاولات المشككة في العرب وفي عطائهم الحضاري للإنسانية، تسعى إلى تجريدهم من أي فضيلة أو فضل على الإنسانية ككل، مركزين على أحداث وأصوات عربية سلبية تنطلق هنا أو هناك من آن إلى آخر، تصبح هي محل الإبراز من دوائر غربية، خصوصاً في وسائل الإعلام، هي بدورها ترحب بهذا التوظيف والترويج لأنه يتسق مع جداول أعمالها ومهامها وانحيازاتها الفكرية المسبقة ومرجعياتها الثقافية. وأحياناً لا يشعر العرب أنفسهم بوجود هذه الأوراق المنبثقة عن ما يملكون من مكونات القوة الناعمة لديهم أو بقيمتها ووزنها الحقيقيين، بل أحياناً يتأثرون هم أنفسهم بالدعايات المناهضة لهم بل ويصدقها البعض من كثرة ما ترددها باستمرار دوائر غير عربية، إلا أن التاريخ والواقع يؤكدان وفرة هذه الأوراق وتنوعها وتعددها وقوة تأثيرها على الساحة العالمية. إلا أن هذا التوظيف النموذجي والمثالي لمكونات القوة الناعمة العربية لن يتحقق من تلقاء نفسه، بل يتطلب تخطيطاً جيداً ومدروساً ومتأنياً على الصعيد الوطني لكل دولة عربية، كما أنه بالضرورة يتطلب التنسيق فيما بين مختلف البلدان العربية لضمان أنه لن يكون هناك تضارب أو تعارض فيما بين جهود كل دولة عربية لتوظيف مصادر قوتها الناعمة لتحسين صورتها عالمياً وللترويج لمصالحها، بل إن هذه الجهود يتعين أن تتكامل ويغذي كل منها الآخر، بديلاً عن أن يأتي كل منه على حساب الآخر، خصوصاً أن بعض مكونات القوة الناعمة العربية هي ملكية مشتركة، إما للعرب جميعاً على المستوى الإقليمي أو لعدد من البلدان العربية التي تشترك في بعض عناصر التاريخ والجغرافيا فيما بينها بأكثر مما تشترك به مع دول عربية أخرى، بما يجعل الملكية لبعض مكونات القوة الناعمة العربية هي على المستوى شبه الإقليمي. ويتعين الانتباه إلى أن مجالات الترويج عبر توظيف مكونات القوة الناعمة هي مجالات مفتوحة على الصعيد العالمي، ولكنها تتسم بدرجة عالية من التنافس الشديد والمزاحمة، فالتأخر في الدخول إليها بالدرجة اللازمة من الإدراك لأهميتها والوعي بآليات عملها يؤثر سلباً على القدرة على التقدم فيها وتحقيق اختراقات نوعية تمثل نجاحاً عملياً لجهود الترويج وبناء صورة إيجابية عن الدولة وعن الشعب وعن العرب في شكل عام كأمة وكتاريخ وكثقافة وكحضارة وكعطاء إنساني متدفق في الماضي والحاضر والمستقبل. * كاتب مصري
مشاركة :