د.نسيم الخوري عندما تبدأ الحروب بوضع أوزارها فوق الخرائب، تجتاحنا مشاهد المغالين برفع علامات النصر الذي قد يتجاوز حسابات الأرباح والخسائر. وقد يمكننا منصاعين قسراً إلى فهم أو هضم تلك المناخات التي تختصر حاجات الدول وخصوصاً الكبرى منها لتظهير نشوة الانتصار.. لكنّ الانتصار سخيف ووهمي وعابر ولا قيمة تاريخية له سوى الحفاظ على صور الدول وسلطاتها ومصالحها. تلك هي خلاصة المشهد المعقّد المنتظر لمن يركّز نظره على العتبة السورية التي تتثاقل نحوها خطى الدول الكثيرة بعد القتال الشرس الذي اختلطت فيه المعارك بالمفاوضات والمبادرات والتنازلات المستحيلة وتحاشر الأحلاف فوق المساحة الصغيرة المتاحة لوقف النار الذي يستوجب، في رأيي، السكون والرويّة ووقف اللغو السياسي في معاني الهزائم والانتصارات. مناسبة هذه الاستهلالية همس طغى على الأحاديث والتحليلات السياسية والدبلوماسية وقفز إلى العلن بعد سقوط الصواريخ «الإسرائيلية» في الجولان السوري( 9 أيّار/مايو 2018) راسماً هندسة جديدة وأسئلة مبهمة لمستقبل الاشتباكات في سوريا المتأرجحة بين السلم والحرب وبين الدمار وإعادة الإعمار، يمكن اختصارها بأنّ كلمة السرّ واضحة في ترك الجولان كما كان قبل ال2011 تحت الاحتلال وإمساك سوريا بالمنطقة الجنوبية بعدما تيقن الروسي من أن الإرهاب أجهض كلّ التسويات ومحاولات فكّ الارتباط هناك. جاء الجواب، بعد يومين، مزيلاً الغموض من سوتشي التي جمعت دمشق وموسكو( 11 أيار/مايو 2018) وعلى لسان الرئيس الروسي بوتين الذي قال بأنّ«تحقيق الانتصارات في الحرب على الإرهاب ومع حلول تفعيل العمليات السياسية، لا بدّ من سحب القوّات الأجنبية كلّها من الأراضي السورية». وتمّ توضيح كلام بوتين روسيّاً بأنّ القوات الأجنبية يقصد بها الأمريكيين والأتراك والإيرانيين وحزب الله. إنّنا، إذن، أمام محطة جديدة تعلن وتقرّ بالاختلافات الطبيعية بين مختلف الأطراف المشاركة في تلك اللعبة داخل تلك العتبة: بين إيران وسوريا كما بين إيران وروسيا وبين روسيا وسوريا.تفرض الموضوعية وضع نقطة ختامية مرحليّة لهذا المشهد المنتظر الواسع للسؤال: ماذا عن الخلافات الروسية -الأمريكية؟ منذ نقطة التفاهم بين مبادرة موسكو وواشنطن على إتلاف الكيماوي في دمشق وختم مراكزه بالشمع الأحمر(18 آب/أغسطس 2014) والجنوح نحو إمكانات الحوار حول سوريا الذي كان يبدو عصيّاً في نتائجه بعد ولو كان ممكناً ومعقّداً في انعقاده المتعثّر في جنيف من قبل ومن بعد، تدهشنا «إعصارات» الإعلام العربي التي يستغرق في حماها الكتّاب والمحللون والتي تبرز هزيمة أمريكا وانكسارها أو تغالي في المقابل، بانتصار روسيا وتفخيم عظمتها. هذا الخطاب العربي الاستقوائي بدولةٍ عظمى وبعدائية قاتلة لدولةٍ أخرى لا يعني كثيراً في هويّات الأوطان الصغيرة ومستقبلها، لكنّه يدفع الحنين النرجسي للشعوب إلى الترحّم على الماضي الذي لن يعود قطعاً. ولأنّ التنازلات والحوارات فوق الكوارث لها أعباؤها وآلامها وانفعالاتها وتجعل الدول والمسؤولين فيها أحياناً أجساداً بلا أرواح، لا تعنيهم أطنان الآلام كما شهدنا في ما يسمى«ثورات العرب» وكلّ الثورات والحروب في العالم، فإنّ هؤلاء لم يعودوا ينظرون إلى الواقع إلاّ بمعنى الغالب والمغلوب أو المنتصر والمهزوم، مع أنّ أقصى أحلام الشعوب التوصل إلى وقف النار والتحلّق حول طاولة للخروج من مواقد النار نحو الاستقرار. لن أخرج المعادلة من شعاري بأنّ روسيا استرجعت عظمتها من سوريا وأنّ أمريكا فقدت الكثير من عظمتها في حقول «الربيع العربي» الدموية، لكن الأهم عدم نسيان خسائرنا كعربٍ ومسلمين أوّلاً إذ لم يتغيّر شيء سوى وقوع العرب في الشرق الأوسط في حقول من الشوك اللعين الذي قد يكون أشدّ إيلاماً من الحروب في لحظات التحفّز للعبور نحو السلام أو قف إطلاق النار على الأقل. لا تبادل للذلّ في سلوك الدول العظمى وقواميسها. هناك لياقة تعامل كبرى عظيمة، إن لم نقل دبلوماسيّة عالية المستوى، لا يعرفها صغار الحكّام، تحكم أصول التعامل في الأرباح والخسائر بين روسيّا وأمريكا. يحافظ الخصم على هيبة خصمه عندما يتراجع. وغالباً ما يضمر التراجع بعد تفاهم العظماء. فيليق بنا أن نخلع من أذهاننا فكرة أن تهين دولة عظمى دولة عظمى أخرى أو تكسر عزّتها أو عظمتها مهما احتدّت الخصومة والصراعات أوحروب الحلفاء. إنّ منتصرين سيخرجان من سوريّا هما روسيّا وأمريكا وكلاهما يحافظ على صورة الآخر فيغطّي هزيمته ولا يعرّيه. تقف موسكو وواشنطن إذن، اليوم، فوق بقعة «أرض» صغيرة وسطية مشتركة اسمها التفاهم المعقّد للعبور نحو أقصى الشرق إلى ما يتجاوز سوريا. تلك هي الصين النقطة الجاذبة التي قد تلتهم الشمس لتقرّب الدول أو تبعدها مرحليّاً عن الدولتين الكبيرتين وعن بعضهما بعضاً.
مشاركة :