لا يمكن للروائي إلا أن يكون شاعرا

  • 6/19/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

ما زال الروائي الجزائري الحبيب السائح ينحت بنيان رواياته ونصوصه الإبداعية بلغة قدت من حجر الصوان، ومضامين جادة أسها قناعات وخيارات فكرية وجمالية غير متجمدة، حتى نهض مشروعه الروائي متفرد الملامح والخصوصيات ومتميزا أشد التميز عن أبناء جيله من الكتاب الجزائريين والعرب على حد السواء. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الكاتب حول أهم عوالمه الأدبية والفكرية. لعل أهم ما يحمل بذرات وجينات التميز عند الروائي الحبيب السائح هو امتلاكه لقدرة عجيبة على المزج بين الواقع والتاريخ بشكل سلس وتلقائي ومستساغ ينم عن وعي كبير بأهمية الحفر الفني في ثنايا وخفايا التاريخ والنبش في مغاوره وذاكرته لأنه يعتبر أن الواقعي هو هذا النهر المتحول باستمرار إلى تاريخ، ويؤمن أشد الإيمان بأن الرواية وحدها هي التي تجعل التاريخ يستمر في الوجدان. ولذلك نجد ترسبات هذا المزج بين الواقع والتاريخ وتمثلاته الواعية في أغلب أعماله الروائية التي أصدرها مثل “زمن النمرود” و”تلك المحبة” و”زهوة” و”تماسخت دم النسيان” و”الموت في وهران” و”كولونيل الزبربر” و”من قتل أسعد المروري”. كتابة التاريخ نبدأ بالحديث مع السائح من روايته الجديدة “أنا وحاييم” التي ستصدر بعد أيام عن دار مسكلياني للنشر، ونسأله عن المناخات الإنسانية والرسائل الفنية الرمزية التي تتحرك فيها هذه الرواية، حيث يقول “حين ينتصر الجانب الإنساني في الإنسان تنزاح حدود الديني والعرقي والأيديولوجي لتفسح المجال للتآخي البشري فتزول المسبّقات؛ لأن الروح أصغى إلى كلمة آدم الأولى ‘سأكون أباكم جميعا وتكونون أنتم جميعا ذريتي‘. إنه شيء من ذلك تسعى إلى قوله قصة الصيدلي حاييم بنميمون اليهودي وأستاذ الفلسفة المسلم أرسلان حنيفي، الجزائريين اللذين يتقاسمان منذ طفولتهما الجيرة والطعام والتذكارات والتعليم الابتدائي والدراسة الثانوية والجامعية، ويواجهان عنصرية الاحتلال واستفزازاته، في كل من مدن سعيدة ومعسكر والجزائر ووهران. ولأن حياتَهما يرهنها مصير مشترك فإنهما معاً يخوضان مقاومة كل بطريقته، من أجل تحرير وطن أنجبتهما تربته. فتُفارق بينهما الحرب التي غداة نهايتها كان كل شيء سيتغير. وكان المسكوت عنه في الواقع والمكبوت في عمق الوجدان سينطق، وكان من المقدَّر لهما أيضا أن يعرفا الحب والانكسار”. حين تكتب الرواية تكون في خضم الشعر من حيث استعاراتك ومجازاتك في الوصف ومن حيث تعابيرك عن روح الإنسان وعكس روايته السابقة “كولونيل الزبربر” التي اتكأ فيها على التاريخ، ينطلق السائح في رواية “من قتل أسعد المرّوري” من قصة واقعية حقيقية معاصرة ترتكز على معلومات وتحقيقات وبحوث وبيانات حقيقية، لذلك نسأله عن أسباب هذه العودة للالتصاق والتناص مع الواقع ورمزية ذلك؟ وهل هي ثورة الواقعي ومواجهته للتاريخي؟ فينفي هذا كله قائلا “ليست عودة. إنها استمرارية. إنها إضافة إلى بناء مشروعي. و‘من قتل أسعد المرّوري‘ استعارة للظلم الذي، أحيانا، لا يُحدد له مصدر. أما الواقعي فهو هذا النهر المتحول، باستمرار، إلى تاريخ. إننا لا نعيش سوى التاريخ، ولا نكتب -إذاً- سوى التاريخ”. وحول مدى تمثيل رواية “من قتل أسعد المروري” كرجع صدى للنخب المثقفة الجزائرية واليسار تحديدا ومعركته مع السلطة ونضاله الحقوقي السياسي في سبيل تحقيق مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، يجيب السائح “أبدا، لا يمكن لرواية ‘من قتل أسعد المروري‘ أن تختزل الحركة اليسارية الجزائرية في شخصية أسعد المروري، لأنها حركة ذات نزعات متعددة ومختلفة. لعل شخصية رستم -القريبة من اليسار- هي التي تنزع عن الحركة كل تنزيه، من خلال علاقة رستم بوالدته ومن خلال اتصالاته برفاق أسعد المروري أثناء تحقيقه. أما محنة اليسار العربي فتعود -في تقديري- إلى فشله في تنزيل مشروعه من علياء ‘مثاليته‘ إلى واقعية مجتمعاته العربية القاسية”. وعن هذا التعانق والتواشج بين شخصية أسعد المروري وخلفياته الفكرية والسياسية، وسيرة الحبيب السائح ومواقفه واتجاهاته وميوله اليسارية؟ وهل صحيح أن كل كتابة روائية وإبداعية عموما هي كتابة للسيرة الذاتية للمبدع بشكل خفي أو معلن؟ يؤكد كاتبنا أن نسغ كل كتابة روائية، خصوصا، هو مزيج من سيرة الكاتب ومن تخييله، مضيفا “غالبا ما يرسل الكاتب ذاته -ولا أقول يسقطها- إلى زمن لم يعشه وأمكنة لم يزرها قبل مجيئه إلى الوجود فينفخ روحه في هذه الشخصية أو تلك. قد يكون الدافع هو الشعور بالحنين، بالانكسار، بالثأر من أمر ما، بالصراخ في وجه الظلم أو القبح، وبما لا أدري. ثم إن الرواية، في جانب منها، هي تعبير عن ذات الكاتب في علاقته بالحياة، وهي سؤاله الوجودي عن تاريخ الإنسان ومصيره”. ويتابع الكاتب “أما أن أصنف نفسي يساريا فإني لا أخجل من ذلك. فما زلت على يساريتي التي تعني لي حلمي، كإنسان، بتحقيق العدالة الاجتماعية، بمقاومة الرأسمالية المفترسة. كما تعني لي الحق في التعبير، بمناهضة التضييق على الحريات الفردية والجماعية، وبناء الدولة المدنية الحديثة، بالوقوف في وجه الطغيان والاستبداد بجميع أشكالهما”. رواية تعتمد على المناخات الإنسانية والرسائل الفنية الرمزية رواية تعتمد على المناخات الإنسانية والرسائل الفنية الرمزية الروائي شاعرا بما أن اللغة في نصوص السائح السردية تستحيل أبطالا وشخصيات تتحرك في فضائها الخاص، نسأله هل يخفي هذا الاحتفال الخاص باللغة واشتغاله عليها شاعرا في أعماقه مات في المهد؟ فيجيب قائلا “لا يمكن للروائي إلا أن يكون شاعرا؛ ما دام الشعر من أرقى أساليب التعبير. فالنثر بدأ شعرا. وكان الشعر العظيم سردا. فأنت حين تكتب الرواية تكون في خضم الشعر من حيث استعاراتك ومجازاتك في الوصف ومن حيث تعابيرك عن روح الإنسان، عن الحب، عن الانكسار. لذا، فإن في داخل كل روائي شاعراً يسْبت ثم يستيقظ لحظة الكتابة”. ويضيف في نفس السياق “أما عن كوني كتبت شعرا في بداياتي فإني لم أفعل. ولكني لاحقا كتبت تنويعات على بعض لحظات حزني وعزلتي وخيباتي ولم أعدّ ذلك شعرا، أبداً. ولم أنشره في كتاب -ولن أفعل- ولكني تقاسمته مع الصديقات والأصدقاء على صفحتي في الفيسبوك”. وأما عن تشبثه بالكتابة بلغة الضاد ولغة الجدود، في الوقت الذي تميز فيه الكثير من كتاب جيله في الكتابة باللغة الفرنسية، وهل يعكس هذا تشبثا بالجذور والهوية وثورة خفية على لغة المستعمر الفرنسي التي ما زالت ترسباتها إلى اليوم في المجتمع الجزائري؟ فيؤكد الكاتب الجزائري “لعله قدري شاء لي ألا أكتب إلا بالعربية. ولعله أيضا مساري الشخصي. ثم إنه، في النهاية، خياري؛ لأني أعيش واثقا بهذه اللغة العربية التي تحمل إرثا حضاريا وثقافيا وفكريا وجماليا من أعظم ما كان للغةٍ بشرية أن تحمله. فأنا أشعر بالسعادة كوني وُهبت بعض سر هذه اللغة التي تحيا في وجدان مجتمعي كالنسغ لأي نبات. وعليه فإني لا أتخذ منها وسيلة مقاومة لأي لغة أخرى؛ لأني أعتبر تلك اللغة الأخرى -بحكم المعطى التاريخي- بمثابة رافد لها؛ شأنها في ذلك شأن الأمازيغية التي هي لغة أُم في بلدي”. وبما أن المبدع عموما -والكاتب خصوصا- لا تكفيه حياة واحدة فهو يحاول خلق حيوات جديدة في نصوصه، وهذا ما حاول فرناندو بسوا اختصاره والتعبير عنه من خلال قوله “الأدب هو البرهان على أن الحياة لا تكفي” نسأل الحبيب السائح إن كان من أنصار الرأي القائل بأن الأدب بديل عن الحياة، فيقول “شخصيا لا أرى الأدب بديلا عن الحياة. بل الحياة هي النص الخالد الباهر الذي يسحرنا بمحاكاته. إننا نكتب لأننا نحس أن الحياة تستحق ذلك. فكل كتابة هي استجابة لنداء الحياة من أجل أن نقول جمالها”.

مشاركة :