كان مثقف الحداثة العربي يحاول جاهدا أن يبدو بصفة المثقف الموسوعي، انطلاقا من تصوره لعلاقته بالعصر الذي ينتمي إليه، ووعيه لذاته ووظفيته، ولذلك كان يسعى جاهدا لتنويع مصادر ثقافته الفكرية والفنية، الأمر الذي جعل الثقافة ذات طابع نخبوي، وجعل المثقف يستمد سلطته من خلال سلطة المعرفة التي يملكها، وهو ما دفع بأحزاب اليسار آنذاك إلى كسب ودّه، بهدف الاستفادة من هذه الصفة التي يمثلها، وإضفاء قيمة خاصة على دورها كقوى طليعية في المجتمع والحقيقة أن المثقف كان يحاول من خلال هذه العلاقة أن يعزز دوره كقوة تغيير وتنوير مجتمعي أيضا. لذلك كان طبيعيا أن تكون الأغلبية العظمى من أعضائها من المثقفين، حتى بالنسبة للأحزاب الشيوعية، التي كانت تدّعي النضال من أجل وحدة عمال العالم. والحقيقة أن واقع الثقافة والعمل الثقافي لم يكن أفضل حالا، ما أضفى طابعا نخبويا على عملها وجمهورها، وجعله عاجزا عن استقطاب الفئات الشعبية التي كان يدّعي النهوض بثقافتها. لقد كان جمهور المسرح والسينما والمعارض التشكيلية والندوات الفكرية من فئة المثقفين، ما يدل على أن الحداثة الثقافية كانت تكرس قيمها بمعزل عن حركة الواقع. لكن صورة هذا المثقف الموسوعي التي كانت تداعب دائما مخيلة المثقف طوال النصف الثاني من القرن العشرين سرعان ما بدأت تتقلص مع ظهور الإنترنت وتطبيقاته الواسعة في الفضاء الافتراضي، حتى بدأ هذا المصطلح يختفي تدريجيا من التداول مع التطور لمواقع البحث وثورة المعلوماتية، التي وفرت بأسهل الطرق عملية الوصول إلى مصادر المعرفة والعلوم والفن والآداب. إن هذا التحدّي الجديد الذي فرضه هذا التطور التكنولوجي السريع لمفهوم المثقف وسلطته قد تجاوز في تأثيراته الواسعة هذا المجال إلى مختلف مناحي حياة الإنسان. لقد حلت الذاكرة الإلكترونية أو تكنولوجيا المعلومات محل الذاكرة البشرية، بعد أن أزاحتها عن عرشها، ما انعكس على دور المثقف ومفهومه بصورة عامة، وعلى الذكاء الإنساني بصورة خاصة، عندما أصبحت هذه التكنولوجيا تتفوق على الإنسان في هذا الدور الذي كان يقوم به. وإذا كانت هذه التكنولوجيا بالمقابل قد عملت على توفير مصادر المعرفة وسهولة الوصول إليها للجميع، فإنها تحولت إلى سلطة جديدة حلت محل سلطة هذا المثقف، لكنها عملت على تأمين الفرص المتكافئة في الوصول إلى مصادر المعرفة وتطبيقاتها، وبذلك كسرت الدور الاحتكاري الذي كان يقوم به المثقف الموسوعي سابقا، وفتحت الباب واسعا أمام تحولات واسعة وعميقة في علاقة الإنسان بالمعرفة وهذا الفضاء الافتراضي الذي زاد من عزلته وحدّ من ذكائه.
مشاركة :