أزمة الهجرة واللجوء إلى أوروبا جددت تصدّعات تهدد «الاتحاد» بالانهيار

  • 6/20/2018
  • 00:00
  • 112
  • 0
  • 0
news-picture

يقتضي فهم الأزمة التي يعانيها الاتحاد الأوروبي اليوم الإقرار بأن تطلعات أوروبا هي من ثمار فكرة «نهاية التاريخ». والاتحاد رهان مغامر على تطور الإنسانية نحو مجتمع أكثر ديموقراطية وتسامحاً من المجتمعات الراهنة. ولا شك في أن أزمة الهجرة واللجوء العالمية تمتحن الأفكار والمبادئ الليبرالية التي يتماسك بها أفقنا الأيديولوجي. وليست مفاعيل هذه الأزمة عميقة لأنها تستدعي إجابات جديدة عن أسئلة طرحت في 1989، بل لأنها تطرح أسئلة غير مسبوقة تماماً. فالأسئلة السابقة كانت من النمط التالي: كيف يسع الغرب أن يغير العالم غير الغربي؟ وما على العالم غير الغربي أن يصنع ليقلد الغرب؟ وما هي الهيئات والمؤسسات السياسية الخاصة التي يفترض نقلها والاحتذاء عليها؟ وما هي الأعمال التي يحسن بالآخرين ترجمتها وطباعتها؟ وتراءى أن نهاية الشيوعية وولادة الإنترنت قرينان أو صنوان. فنهاية التاريخ تدعو إلى ضرب من المحاكاة إن في دائرة السياسة والمؤسسات أو في دائرة التجديد التكنولوجي والحياة الاجتماعية. وهاجرت لفظة «الثورة» من السياسة إلى التكنولوجيا، فدلت أولاً على «ثورة التكنولوجيا». وتخيل فرانسيس فوكوياما سوقاً معولمة تتنافس فيها الأفكار والرساميل والسلع منافسة حرة، على أن يبقى البشر في ديارهم ويضطلعوا بإرساء الديموقراطية فيها على أسس قوية. وغابت لفظة «الهجرة»، والصور التي تواكبها- صفوف المهاجرين المديدة وهم يجتازون حدود البلدان الوطنية- عن الرواية التي سردها فوكوياما. وغفلت هذه الأفكار عن معنى «الحدود» الذي تحلل في نظرة ليبرالية عوَّلت على استمالة القلوب والنفوس في نواحي الكوكب. فكيف قلبت العقود الثلاثة الأخيرة أحوال العالم، والغرب معها؟ وكيف أفضى الطموح إلى تصدير القيم والمؤسسات إلى أزمة الهوية العميقة التي تصيب المجتمعات الغربية في الصميم؟ وجزم أوروبيون كثر بأن تدفق المهاجرين قرينة على إخفاق الديموقراطية وعَرَض من أعراض القضايا التي على أوروبا التصدي لها. فالأفكار الليبرالية التي تنهض على ركن التسامح، وتختصر فيما «يليق بالواحد قبوله»، انتهى الأمر بها إلى إدانتها بجريمة إلحاق الأذى بالشعب، وألقي على عاتق المهاجرين (عبر جنوب أوروبا)، القاصدين وسطها وشمالها على الأخص، التحكيم في مصير الليبرالية الأوروبية. وعلى خلاف فوكوياما، وتأويله نهاية الحرب الباردة، اقترح كين جوديت، الأستاذ في جامعة بيركلي بكاليفورنيا، تأويلاً آخر للواقعة الكبيرة نفسها. فذهب إلى أن الخروج من الحرب الباردة إيذان بحقبة أزمات ومحن تمهد لـ «فوضى عالمية جديدة». وقارن جوديت نهاية الشيوعية بانفجار بركاني يقتصر أثره في مرحلة أولى على بلدان «لينينية» (شيوعية) قريبة، ثم يتعداها إلى حدود وهويات رسمت، طوال نصف قرن، صورة العالم السياسية والاقتصادية والعسكرية. فلا غرابة إذا أدى تخطيط حدود جديدة، وصوغ هويات مختلفة، إلى حقبة من النزاعات المستشرية والشلل. وتوقع جوديت أن تولد في الأثناء أنظمة هجينة وممسوخة، يستحيل التكهن بها، تحيل القارة القديمة إلى مركز الفوضى الآتية. فتبعث الهويات القومية الدينية والقبلية البائدة والمنسية. ولا يترتب على تواري أيديولوجية كونية قوية، في مستطاعها التصدي لليبرالية، طي صفحة الثورات، على ما حسب فوكوياما. فتندلع، على أنقاض الإيديولوجية الكونية، انتفاضات تناوئ الفكرة الكونية، وتناهض النخب الكوسموبوليتية التي تميل إلى الغرب وتتبنى الفكرة. ونشهد اليوم مآلات العالم المتهافت والمتصل (من طريق الشبكة) الذي ولد في تسعينات القرن الماضي. فحلّ محل الديموقراطية، ونظامها الذي يحمل الأقليات المتفرقة على طلب التحرر، نظام سياسي يعلي شأن أحكام الغالبيات المسبقة ومخاوفها وهواجسها. واضطلعت الصدمة الناجمة عن تدفق المهاجرين واللاجئين بدور حاسم في انقلاب الموقف من الديموقراطية. وأظهرت دراسة أعدتها جمعية دراسات وبحوث لندنية، «ديموس»، أن السمة البارزة لأنصار الحركات الشعبوية اليمينية، قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي («بريكزيت») وانتخاب دونالد ترامب، هي الخوف من سياسات الهجرة الليبرالية. فشطر لا يستهان به من الأوروبيين يحمل الليبرالية على المراوغة والخبث، ويتهم النخب الليبرالية بالتغاضي عن أمواج الهجرة، والتهرب من مناقشة نتائجها، والإصرار على القول إن الربح منها يفوق الخسارة. وتشبه موجة الهجرات المتمادية والمشهودة جولة ثانية من تصفية الاستعمار وذيوله، وتحمل جماعات من الشعوب المستعمرة إلى الحواضر الكولونيالية. فقبل نحو نصف قرن أو ثلثي القرن توسل المستعمَرون بوعد الاستقلال الأوروبي، واستظهروا به علماً على حركات تحررهم. واليوم، يدعو أولادهم وأحفادهم إلى احترام حقوق الإنسان، ويتذرعون بهذه الحقوق إلى تسويغ استقبالهم في أوروبا. وتخشى الغالبيات (الأوروبية) القلقة اجتياح الأجانب بلادها وتهديدها طرائق حياتها. وهي على يقين من أن الأزمة الراهنة هي ثمرة مؤامرة تواطأ على نسجها أو تدبيرها نخب ذات ذهنية كوسموبوليتية ومهاجرون يدينون بقيم ومعايير قبلية. وتتغذى الشعبويات المولودة من دوامة الأزمة الراهنة من توقعات سكانية مفرطة في المبالغة، ومن تكهنات في شأن الأفول الأوروبي الوشيك المفرطة في التشاؤم. وتتحدى الأزمة الليبرالية في قلب فلسفتها: فالحقوق العمومية (الكونية) تعود إلى مواطنين يقيمون في مجتمعات يتفاوت تمتعها بالحرية والرخاء. ومحل الولادة يترتب عليه تفاوت حاد في حظوظ الوفاة قبل بلوغ الخامسة، وسوء التغذية، والصحة والتعليم والإعداد المهني... وعلى هذا فأثمن ما يملكه الألمان أو السويديون أو الدنماركيون هو جواز سفرهم (أوراقهم الثبوتية). وتتصدر مخاوفهم الخشية من تردي قيمته. وفي المقابل، 97 في المئة من سكان الكوكب، أي 6 بلايين، هم أسرى «اليانصيب» الذي قسّم ولادتهم حيث ولدوا، ونهب لـ «رغبة في الغرب» (سلافوي جيجيك) ممضة. فالتناقــــض بين طبيعــة الحقوق العمومية الكونية وبيــن الــتمتع الفعلي بها في إطار وطني (محلي) هو في قلب أزمة الرأي العام (الأوروبي). والاقتراع في عدد من بلدان أوروبا هو مرآة هذا التناقض. ففي النمسا، اقترع 90 في المئة من «الياقات الزرق» (العمال) لمرشح اليمين المتطرف إلى الرئاسة في أيار (مايو) 2016. وفي الانتخابات المحلية الألمانية، حاز حزب البديل، اليميني الرجعي الجديد، على 30 في المئة من أصوات الفئة الناخبة نفسها في ولاية ماكليمنبيرغ- بوميرانيا القريبة. وفي الانتخابات المحلية الفرنسية، في كانون الأول (ديسمبر) 2015، انتخب الجبهة الوطنية 50 في المئة من الناخبين العمال. وكان الاقتراع للبريكزيت راجحاً في شمال إنكلترا، حيث معاقل حزب العمال التقليدية. وهذا قرينة قوية على أن الانقسام الطبقي والسياسي التاريخي بين اليسار واليمين، بين الطبقات الشعبية والبورجوازية، أخلى محله للانقسام بين «أهل أي مكان» و «أهل مكان بعينه»، على قول ديفيد غودهارت، أي بين أصحاب الهويات الملتبسة من طريق الدراسة والمهنة والسفر وبين أصحاب الهويات المتجذرة في مكان. والانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة شهدت نزاع هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، فمالت الولايات الساحلية، على شاطئ المحيطين، ونخبها الكوسموبوليتية، إلى الأولى، على خلاف الولايات الداخلية، ولايات البر الزراعي والحمائي، إلى الثاني. ولا شك في أن انقراض طبقة عامة ذات ميل أممي أمارة صريحة على تغير أبنية السياسة الأوروبية. ويقتـــرن الخوف من «اجتياح» الغرباء «الديار» والقيم «المنزلية» والأهلية بخوف آخر من اجتياح أجهزة الذكاء الاصطناعي (الروبوت) أماكن العمل والإنتاج والتبادل والاستشفاء. وتوقع مستقبل لا يدعو الناس إلى العمل تهديد وجودي وفكري داهم. ويوقع احتياج الأوروبيين إلى فتح حدودهم، في سبيل ازدهارهم، يوقعهم في تنازع حاد: فهم يخشون أن تؤدي الحدود المشرعة إلى تذويب خصوصيتهم الثقافية، وإذا اختاروا غلق حدودهم تهددهم تردي مستوى معيشتهم العام واضطرارهم إلى القيام بأعمال منهكة تستنزف طاقاتهم الجسدية. وتنقسم شعوب القارة القديمة على الموقف من الإدارات الأوروبية، ورمزها مدينة بروكسيل، «العاصمة» الاتحادية. فشعوب الشطر الغربي من القــارة تولي ثقتها حكوماتها الوطنية فوق ما توليـــها الإدارة الاتحادية التكنوقراطية. وهذا على خــلاف شعوب الشطر الشرقي التي تثق في بــروكسيل فوق ما تثق في حكوماتهـــا. وانقلبت الآية مع انفجار أزمة الهجرة واللجوء. فأمواج الهجرة أممت «السياسة أو وطنتها (ردتها إلى العصبيات الوطنية أو القومية)، وبعث خط الانقسام بين الشرق والغرب وتجـــدد هذا الانقسام يغذي المخاوف من تصدع الاتحاد الأوروبي تصدعاً جزئياً أو كلياً. وأزمة منطقة اليورو تقسم الاتحاد على محور قطباه الشمال (الأوروبي) والجنوب. ونبّه البريكزيت إلى انقسام أوروبا كتلتين: واحدة في قلبها وأخرى على أطرافها. وفرقت أزمة أوكرانيا الأوروبيين حزبين: حزب الصقور وحزب الحمائم. ولكن أزمة المهاجرين اللاجئين، وإحياءها خط الغرب والشرق، أشد تهديداً لبقاء الاتحاد من الأزمات الأخرى. ويستوقف المراقب أن رأي البولنديين الكاثوليك في المهاجرين لا يختلف في شيء عن رأي الرومانيين الأرثوذكس، وأن رأي جمهورية تشيخيا، ذات البنية الاقتصادية المتينة، هو نفسه رأي بلغاريا، المعتلة الاقتصاد. وتشكو بلدان شرق أوروبا أفولاً سكانياً ملحوظاً. فمنذ نهاية النظام الشيوعي، غادر 2.5 مليون بولندا، و3.5 مليون رومانيا. وتقلص عدد سكان ليتوانيا من 3.5 مليون إلى 2.9. وغداة الحرب العالمية الأولى وحروب البلقان، استقبلت بلغاريا مهاجرين بلغت نسبتهم من جملة سكانها الربع. وهذا قريب من وضع لبنان والأردن، اليوم. والبلغاريون فخورون بدمجهم هذه النسبة من المهاجرين من أصول بلغارية. ولكن أزمة المهاجرين واللاجئين اليوم تجلو وجهاً آخر من شرق أوروبا. فشعوب هذا الشطر من القارة تحمل القيم الكوسموبوليتية والكونية التي ينهض عليها الاتحاد على تهديد يطاول تماسكها الوطني والاجتماعي. ورفض هذه الشعوب وحكوماتها، استقبال المهاجرين وتوطينهم شكل من أشكال التمرد على العولمة. وعلى خلاف دول غرب أوروبا، حيث تولت الإمبراطوريات الاستعمارية حضانة العلاقة بالعالم غير الأوروبي، نشأت دول أوروبا الوسطى عن انهيار الإمبراطوريات القارية الأوروبية (ألمانيا، النمسا، المجر، روسيا)، وعن عمليات التطهير العرقي. وبينما اتصف مركب القوميات في بلدان غرب أوروبا بالتناسق والانسجام، غلب التنافر على نظير هذا المركب في بلدان الشرق. واليوم، ترجع أصول 98 في المئة من سكان بولندا إلى أجداد بولنديين. وهذه نسبة من «الصفاء» العرقي لا تضاهيها نسبة قريبة في بلد آخر. وتدين الطبقات الوسطى الوطنية في شرق أوروبا بظهورها وتبلورها إلى عاملين: تدمير يهود أوروبا في الحرب الثانية، وإجلاء الألمان قسراً عن بلدان هذا الشرق غداة هزيمة ألمانيا. ونهض الاتحاد الأوروبي على ركنين: الفكرة الفرنسية عن الأمة (غلبة الولاء الجمهوري على الأصل القومي- الإتني) والبنية الألمانية للدولة (ولايات قوية ومركز أقل قوة). ونشأت دول أوروبا الوسطى على خلاف هذا المثال، فجمعت إعجاباً فرنسياً» بالدولة المركزية وقبضتها الحديد إلى حمل المواطنة على نسب دموي وثقافة مشتركة. وعلى هذا، ليست ثمة فرق بين موقف شعوب الشرق الأوروبي من العولمة وبين اقتراع العمال البيض الأميركيين لترامب. والهجرة من بلدان شرق أوروبا تصور خطر ذواء سكاني يؤدي إلى تواري الشعوب برمتها، ويقلب الديموقراطية كارثة سكانية محققة تنذر بها ظواهر مثل الزواج المثلي والحق في الإجهاض وتحديد النسل. * مدير مركز الاستراتيجيات في صوفيا (بلغاريا)، عن كتابه «بعد أوروبا» (بالإنكليزية)، بين برس، 2017، إعداد منال نحاس

مشاركة :