أدى التطور الاجتماعي المعاصر إلى اختلاف صورة العلاقة الأسرية الآن عما كانت عليه في الماضي، فغالبية الآباء والأمهات حصلوا على درجات متفاوتة من التعليم والثقافة، وهذه الثقافة قادرة على إضاءة مشاعل المعرفة والأمان أمام الأبناء، فإذا أضيف تفهم الآباء لمطالب الأبناء النفسية في مراحل العمر المختلفة يصبح بالإمكان الوصول إلى علاقة صريحة متبادلة بينهما. وتتفاوت متطلبات الأبناء من الحرية، ومنهم من يطلبها لكن بالقدر المعقول، وقد يحتاج جميعهم إلى تلك المساحة التي تبث الثقة في النفس ولا تنال من احترام الإنسان لنفسه مع إقامة جسور الثقة بين الآباء والأبناء والتفاهم وتمكن الأبناء من طرح مشاكلهم وما يشغل قلوبهم وعقولهم على الأباء كأصدقاء لهم. وقد تكون الرقابة الأسرية أحد وسائل تمتين العلاقة بين الآباء والأبناء نتيجة التواصل بينهما، وإن كان هذا التواصل إيجابياً ولا يشوبه أي نوع من التعسف أو السلبيات؛ سينتج من هذا الاتصال علاقة متينة وتزداد متانتها مع الوقت، مع إيحاد التفسير الذي يناسب الطرفين لتعريف الإيجابي، فأحياناً يشعر الأبناء بأن ما هو إيجابي لهم هو فعلياً سلبي عليهم. وتقول عالية عبدالله (ربة منزل وأم لأربعة أبناء)، إن «أمام الطفل حلين أمام هذه الرقابة القوية والتسلط من الآباء، الأول هو التمرد وهو ما سيخلق حاجزاً واضحاً في العلاقة بين الآباء والطفل، وسيكبر هذا الحاجز ويمتد على مدار الزمن، أما الحل الآخر فهو الأسوأ للطفل وهو الخضوع، وهو ما يعني أيضاً حاجزاً آخر في العلاقة، ولكن هذا الحاجز سيكون وهمياً وغير مرئي ولا شعوري، بل على العكس سيظن الآباء أن مثل هذا الحاجز هو التواصل، ولكنه فعلياً موجود وسميك جداً». لكن زوجها خالد ناجي يرى أن الطفل وعندما لا يجد التواصل مع الأهل سيعمد إلى نقطة اخرى، وهي «الكذب وخلق الأسرار الخاصة به في نوع من الحماية لنفسه، فعلى رغم أن الحماية يجب أن يوفرها الأهل للطفل، ولكنه مع شعوره بفقدانها سيحاول أن يقوم بتوفيرها لنفسه وبذاته، وهو ما سيجعله يبني صندوق الأسرار الخاص به، إضافة إلى اختلاق الكذب، لذا يجب الاقتراب من جميع نقاطهم الحساسة والولوج إلى عوالمهم بشكل ناعم من دون إشعارهم بأن الخطأ محرم، وأن المثالية هي المطلوبة منهم فقط». وتعزو الاستشارية النفسية الدكتورة نوف غالب الكذب المستمر إلى تسلط الوالدين في تربية الأبناء بالطرق الحازمة جداً. وتقول: «إن من أسوء ما قد يحصل للطفل هو أن يتحول إلى ما يشبه الآلة، أي انه يجاوب بمقدار ويتصرف بمقدار بحسب ما يطلب منه من دون تفكير، هذا الأمر يفقده هويته ويفقده شخصيته، ويحيله إلى شخص عديم الشخصية، وهذه الطاعة العمياء من أكثر السلبيات المدمرة والناتجة من تسلط الأهل في رقابتهم على الأبناء، لكونها في الكثير من الأحيان تحيله إلى ذلك الإنسان الجاهل غير الطموح وأيضاً الجامد الذي ينتظر من يوجهه، مع الأخذ في عين اعتبار ألا يترك الحبل على الغارب في تربيتهم وترك كل أمورهم من دون متابعة أو اهتمام، ويجب اتخاذ مبدأ الوسطية في التربية». من جهته، يؤكد استشاري الطب النفسي جمال الطويرقي أن الوسطية في التربية هي الحب، لافتاً إلى اختلاف معايير التربية عن السابق كثيراً، وأصبحت الأسر أمام حلين؛ إما الرقابة المشددة أو الإنفلات من دون رقابة، وهذا من أعظم أخطاء التربية، بل يجب على الآباء أن يعطوا أبناؤهم الثقة ويتعاملوا معهم بحرص مع غرس أساسات التربية الصحيحة في أعماق أبناؤهم، وعدم ترك هذه المهمة للخدم أو للتكنولوجيا، بل يجب أن تكون الأم والأب هم المشرفين الأوائل على هذا المشروع (الإبن)، لأن الاستثمار الجيد هو استثمار الأبناء في تربيتهم وتوجيههم حتى يكونوا لبنة صالحة لوطنهم ولذواتهم».
مشاركة :