بغداد- بملامح مطمئنة أنهت أم صهيب، وهي امرأة سُنية، صلاتها في مرقد ديني تاريخي للإمام موسى الكاظم (أحد الأئمة الشيعة)، وسط العاصمة العراقية بغداد، بعد سنوات من انقطاعها عن القيام بذلك، جراء التوتر الطائفي الذي مزق البلاد. في السنوات السابقة ومنذ عام 2006 تحديدا، لم تكن هذه المرأة تفكر مجرد التفكير في التواجد في مثل هذا المكان، وقتها كانت التوترات الطائفية في أوجها، وتمعن ميليشيات طائفية من الطرفين (السنة والشيعة) في القتل على الهوية، بغض النظر عن جنس الضحية أو عمرها أو حتى سنها في بعض الأحيان. وتقول أم صهيب “في السنوات السابقة توقفت عن المجيء وممارسة طقوسي المعتادة المتمثلة بالصلاة هنا وقراءة القرآن وخاصة في شهر رمضان”. وعللت سبب ذلك بالقول “كنت أخشى إن صليت وأنا قابضة اليدين، أن يعتقدوا أنني أستفزهم أو أتحداهم أو قد يساء الظن بي بشكل أو بآخر”. وكانت أم صهيب تشير إلى طريقة أداء السنة للصلاة عبر قبض اليدين، أي وضع اليد اليمنى على اليسرى، خلال وضعية الوقوف، في حين تكون اليدان متدليتين خلال الصلاة عند الشيعة. ولم تعد تشعر أم صهيب بنظرات الريبة في محيطها الشيعي وهي تؤدي صلاتها في الضريح الذي يقصده الملايين من الشيعة سنويا من داخل العراق وخارجه. وتقول “بدأت أتردد على هذا المكان مجددا منذ عام تقريبا، وأنا أعلم تماما أن تلك سنوات الاقتتال الطائفي ولت ولن تعود، بل على العكس لم أعد أرى نظرات الاستهجان أو الريبة من طريقة صلاتي هنا، وأشعر أنني محل ترحيب”. وكان لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي أواخر العام الماضي، الأثر الكبير في تخفيف حدة الاحتقان الطائفي في العراق بين السنة والشيعة. وسيطر داعش على ثلث مساحة العراق صيف 2014. وقبل ذلك بسنوات وصلت أعمال العنف الطائفية إلى ذروتها وخاصة في العاصمة بغداد، حيث قتل الآلاف من العراقيين على الهوية الطائفية على يد ميليشيات شيعية وسنية. وكان أبوكرار، وهو شيعي، أحد الذين دفعوا ضريبة أعمال العنف الطائفي غاليا بفقدانه لأحد أبنائه، بعدما اختطفه مجهولون قبل أن يعثر على جثته ملقاة أمام مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني الذي يتوافد عليه السنة، في حي باب الشيخ ذات الغالبية السنية بالشطر الشرقي من بغداد. ولم يكن من السهل على أبوكرار نسيان ذلك، إلا أنه يقف اليوم في مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني، الذي وجد أمامه جثة ولده قبل أكثر من عشر سنوات، وهو يتضرع إلى الله ويمارس طقوسه في مكان يعج بالسُنة. ويقول أبوكرار “في هذا الحي في العاصمة قتل ولدي، اختطف من أمام منزلنا جنوبي بغداد ووجدناه بعد ثلاثة أيام هنا أمام مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني”. ويكمل قائلا “ابتعدت سنوات طويلة عن هذا المرقد بسبب مخاوفي وحالتي النفسية التي كانت تتأزم كلما مررت من هنا، لكن الآن تجاوزت ذلك، وأنا آتي للصلاة هنا كما أذهب لأي مرقد آخر في العراق”. وخلال ذروة الاقتتال الطائفي، نالت المراقد الدينية نصيبها من أعمال العنف الطائفي والقتل على الهوية. فمنها انطلقت شرارة الحرب الطائفية عندما فجر مجهولون مرقد الإمامين العسكريين المقدس لدى الشيعة في مدينة سامراء. وفي الجانب الآخر، تعرض مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني ببغداد إلى تفجير بسيارة مفخخة أدى إلى مقتل وإصابة العشرات فضلا عن تعرض المرقد لأضرار بليغة. استعادة المراقد الدينية في العراق لروادها من مختلف الطوائف كانت بعد عمل حثيث بذله رجال دين معتدلون سعوا لإزالة الحواجز التي وضعها آخرون كانوا يستخدمون الخطاب الطائفي لتحقيق مكاسب سياسية، وهو ما يؤكده رئيس مركز الفكر للحوار (مستقل) الشيخ مجيد العقابي. ويقول العقابي إن “الخطاب الديني بعد الاحتلال الأميركي للعراق 2003 كان طائفيا بامتياز وسعى إلى صبغ ديموغرافية بعض مناطق العراق، بمذهبية بحتة، وهو ما سعى إليه أيضا تنظيم داعش”. ويتابع “بدأ الناس الآن يشعرون بالأمان، وعزز ذلك خطابات التسامح التي أطلقها رجال الدين المعتدلون في المراقد المختلفة السنية والشيعية وبدأوا باستقطاب أبناء الطوائف والأديان المختلفة”. ويختم العقابي حديثه بالقول “استطعنا تسييج هذه الفتن وتقنينها إلى حد كبير”. ويرتاد العراقيون بكثرة المراقد والمزارات الدينية المنتشرة في أرجاء البلاد والتي تخص مختلف الطوائف والأديان، ليس للتعبد والتصوف فقط، وإنما للترفيه عن النفس بصحبة العائلة أو الأصدقاء وحتى مع المجموعات السياحية، عبر زيارة المراقد والتجول في الأسواق المحيطة بها. وتعودت أم شيلان الخروج مع صديقاتها أو عائلتها لزيارة المراقد الدينية في المحافظات الأخرى خارج بغداد بشكل منتظم. وتقول “نذهب باستمرار إلى مراقدنا المقدسة الشيعية والسُنية في محافظات مختلفة منها النجف وكربلاء (جنوب) وسامراء التابعة لمحافظة صلاح الدين شمال، ونقوم بتنظيم رحلات جميلة إلى هناك، ومعنا نساء مسيحيات ومسلمات… نقوم بذلك أسبوعيا أحيانا. وبالطبع في المناسبات والأعياد لا بد من الزيارة”. وتواصل قولها “هذه العادات توارثناها منذ زمن ودأبنا عليها ولا فرق لدينا بين إمام سُني وشيعي، كلهم مسلمون بل إن رحلاتنا تشمل في الكثير من الأحيان زيارة لمراقد تعود لأنبياء ما قبل الإسلام”. وتختتم حديثها “ابتعدنا عن تلك الطقوس بعض السنوات القليلة بسبب الوضع الأمني الاستثنائي.. ليس إلا”.
مشاركة :