لا نحتاج دوماً إلى مناسبة للحديث عن جهود الناقد والمفكر عبدالله الغذامي، فهو الذي يصنع الحدث ويثير الأسئلة ويفتح البصر والبصيرة على قضايا المشهد الثقافي والواقع العربي. لم يعد عبدالله الغذامي اسماً سعودياً ولا خليجياً، إنما عربي بامتياز، فكتبه أضحت مرجعاً أساسياً في جامعات، ولدى مريدين ونقاد عرب كبار، يختلفون ويأتلفون حوله. الغذامي ليس مجرد ناقد، يمكن ذكره بين حفنة من الأسماء، إنه علامة لدرس نقدي صعب وإشكالي... في الأيام الأخيرة، عرف قراؤه ومريدوه بمهاجمة المرض له، فتنادوا بالدعاء والأمنيات بالشفاء. كل يرى مع الدكتور عبدالله الغذامي، أنه حال خاصة، وكل يرى أنه يمنحه ما لا يمنح غيره. وفي الحقيقة، هذا سلوكه مع الجميع، مع من يعرف ومن لا يعرف، يتعلم الجميع من هذه القامة كيف يكون المثقف راقياً، يمتهن السلوك الثقافي ويعمل به ليجعل غيره ممتناً لسعة أفقه وتواضعه ومحبته. وهنا شهادات أدلى بها مثقفون لـ«الحياة»، عبروا من خلالها عن وجهات نظر تجاه هذه الشخصية الثقافية والفكرية، التي افتقد رواد «تويتر» إطلالته بسبب رحلته العلاجية. قاسم الرويس: علامة مضيئة الغذامي نموذج للمثقف العربي صاحب المبادئ، ولذا حفر اسمه ليبقى علامة مضيئة للأجيال، وأجبر الناس على احترامه وتقديره بوعيه الخلاق، ورصده الظواهر الثقافية في المجتمع، وإنتاجه العلمي المتوالي، وهو من المثقفين السعوديين النوادر الذين تُقرأ كتبهم في جميع أنحاء العالم العربي بلا استثناء. وعلى رغم الحملات الشرسة التي شنت ضده في الماضي وفي الحاضر، فإنه ظل صامداً ومنشغلاً بمشروعه الثقافي الممتد منذ سنين طويلة في النقد والتشريح بناءاً وتفكيكاً، وفي كل مرحلة يتحول الخصوم إلى موالين، ويظهر له من الموالين خصوم، وهو مستمر في طريقه لا ينثني عن هدفه النبيل! ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي انتقل الغذامي من حلقة النخبوية المنغلقة إلى حلقة المجتمع الأوسع، فأعاد الناس اكتشاف شخصيته، وبرز تواضعه وتسامحه ووعيه واستعداده للحوار مع الجميع،كما تبنى بعض القضايا فازدادت شعبيته وكثر مريدوه في مجتمع مازالت نخبه تعيش في أبراجها العاجية، وأنت في الحوار معه تحترمه في حال اتفاقك معه، ولكنك تكون أكثر احتراماً له في حال الاختلاف معه، لأنه مضيء في الحالين، ولذا فإن غيابه عن «تويتر» قبل أيام كان مثار تساؤلات المتابعين الذين يطربون لتغريداته الرائعة، نسأل الله له الشفاء العاجل والتوفيق الدائم، وسنستمر في السعودية مفاخرين بالغذامي نموذجاً للمثقف الحقيقي في زمن تكاثر على منابره مثقفو الأوهام. هدى الدغفق: شجاعة نقدية نادرة الحديث عن شخصية ثقافية أدبية اجتماعية إنسانية مثل عبدالله الغذامي - وإن عجز عن إيفائها مكانتها - حديث ممتع، فشخصية الدكتور عبدالله بما تفيض به من اقتدار فكري ثقافي ناقد، فهي مدهشة باكتشافاتها وتحليلاتها ومنظورها بكل أبعاده وتناقضاته وصداماته، لا يكاد يتمتع ناقد سعودي بالشجاعة ذاتها والقدرة والمغامرة كما هو ذلك متوافر في وعي الغذامي، وحين هجر الغذامي الأندية الأدبية وقاطعها، والتزم بموقفه كان واضحاً ونموذجاً يستجيب لقناعاته ومبادئه الفكرية والثقافية، ولم ندرك بما يكفي تلك الشجاعة وذلك الموقف الملتزم. استغنى الغذامي عن جمهور المؤسسات الأدبية بما تحتضن من بيروقراطية وتقليدية وتناقض، نائياً عنها إلى الفضاء الرقمي وشبكات التواصل، ليلتقي مع الناس ويكتسب منهم سعة الحوار ومنطلقاته بلا حدود أو مقامات أو بروتوكولات شكلية تقتل الفكرة وتعوق تنفس معناها الثقافي، كما أكسب الغذامي جمهوره الثقة بشخص المثقف المتواضع الشجاع المنفتح على قيم التواصل الرفيعة. اتجه الغذامي إلى «تويتر» ليكتسب من خلاله شعبية مذهلة، تدل على تناغم وانسجام أدبي إنساني، قلما تتوافر في المناخ الثقافي النخبوي عادة، ومن ناحية أخرى اكتناز كتبه بالأفكار والنظريات والتحليلات المثيرة أضحى مؤشراً وسمة للغذامي، فهو مثقف وناقد مثير للجدل بامتياز، لا محلياً فحسب، بل عربياً أيضاً، وفي كتبه كثيراً ما تبدو نظرته إلى المرأة محفوفة بالتقدير والإجلال ومنصفة لها، إذ يربط بين قيم الجمال والوعي والإلهام والفضل. ويعتبر الغذامي من أشد النقاد السعوديين اهتماماً برأي المثقفة، وأكثرهم تشجيعاً لها وتوجيها وحفزاً وإخلاصاً لوعيها، سواء فيما يتناول أو فيما يتابع، قراءة واستشارة. والحقيقة أنه بتأمل طريقته المترفقة المحتشمة في إخطار جمهوره المتلقي في «تويتر» بغيابه بسبب ظروفه الصحية كانت إنسانية منتمية، دعت إلى تقدير أكبر لمثقف «أخلاقي» بامتياز، وعلى رغم أنني أختلف معه في بعض المواقف الآيديولوجية، فإنني مشغولة وسأظل مفتونة بالغذامي الناقد المثقف الإنسان. وما أتمناه أن يتناسخ النقاد السعوديون طريقة الغذامي في التواصل والوعي الثقافي، وفي إنسانيته وقبوله آراء وأفكار الناس على بساطتها وتلقائيتها. أرجو له الخير ودوام الصحة والعافية لأنه ينبوع كلما نهل منه أحدنا ازداد عذوبة وانتشى. عبدالله الوشمي: حراك اجتماعي متعدد «سعادتك هي المعنى الوحيد الخاص بك»، هذه إحدى تغريدات الدكتور عبدالله الغذامي الأخيرة التي يمكن أن تكون وسيلته إلى قلوب كثيرين من أجيال متنوعة، إذ ينحاز إليهم ويقترب منهم، وذلك من باب رهانه على المجتمع العريض من محبيه ومتابعيه، وهو بذلك يصل إلى الشريحة الأوسع من المجتمع بعد أن حضر بشموخ في شريحة المثقفين والنخبة. أنظر إلى الدكتور عبدالله من بوابات عدة، أولها أنه زميل لأبي رحمه الله من الناحية الثقافية العامة، وجرى بينهما تواصل في بعض الأطر، ثم إنني تعرفت إليه من بوابة أبي ومكتبته، وهي تحتضن بعض مؤلفاته؛ ليكون بعد ذلك ممن نهلت منهم المعرفة، وخصوصاً في كتابه «ثقافة الأسئلة» و«تشريح النص»، ثم تتالت القراءات. أنحاز إليه ناقداً أكاديمياً فاحصاً للنص متعمقاً في قراءاته، وأتقاطع مع قراءاته الثقافية باحترام كبير، ويكفي أنه الصوت الثقافي الجاد الذي يستطيع أن يُحدث حراكاً اجتماعيا على مستويات عدة، وقد لا يشاركه إلا قلة من الأدباء والنقاد على المستوى الوطني أو العربي، إذ تكون مواقفهم مادة ينشغل بها المجتمع مهما اتفق معها أو اختلف، ويتحول الرمز الثقافي من حيز الضيق إلى إطارها العام. ليست قراءة في جهوده، ولا رصداً لتحولاته، ولكنها كلمة وفاء ودعاء بأن يحفظه الله لذويه ومحبيه، وأن يبارك في عمره وعمله، وأن يتألق ليكمل مشروعاته الثقافية والعلمية.
مشاركة :