تخطئ معظم التحاليل السياسية في الوطن العربي استقراء الحالة الانتخابية التركية بعد أن تُسقط على الواقع التركي كافة التداعيات والحمولات الخطيرة لسياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على عواصم العرب، لتصل في الأخير إلى تقديم قراءة تصلح للناخب العربي ولا تنسحب على عقلية المقترع التركي. كما تجانب غالبية التعليقات السياسية الخاصة باستشراف نتائج الانتخابات التركية عندما تختلط عندها الأمنيات بالقراءات، وتمزج بشكل هجين التطلعات الاستراتيجية بتوازن القوى الحزبية والسياسية في تركيا. منذ نحو عقدين من الزمان وأردوغان يقبض على مقاليد السلطة في أنقرة سياسيا وفي إسطنبول وجدانيا وحضاريا، وفي كل استحقاق انتخابي، سواء كان برلمانيا أو رئاسيا، يؤكد الأخير أنه رقم صعب في المعادلة الانتخابية التركية يعسر تجاوزها، وهي مقدمات تفرض على المحلل السياسي الابتعاد عن المناحي الحينية والفورية للمشهدية الانتخابية من أرقام اقتصادية ومناوشات سياسية مع الجوار، وتجبره في المقابل على البحث عن الأسباب العميقة والمتجذرة التي تسمح لـ“نصف سلطان” أن يكون على عرش الرئاسة، و“نصف رئيس” على عرش السلطنة، أن يظل ماسكا بصولجان الحكم في بلاد آل عثمان. وقد يكون الاستفسار الأعمق من مجرد التساؤل عن خلفيات الانتصارات المتلاحقة لأردوغان كامنا حول فشل المعارضة التركية في افتكاك زمام المبادرة، وفي تجسير هوامش التحرك والمبادرة على حزب العدالة والتنمية وفرض معادلات توافق الضرورة وتحالف الضعفاء عوضا عن ترك المجال لأردوغان وحزبه للإمساك بمقومات الحكم وآليات الحكومة. من الواضح أن المعارضة التركية بمختلف أطيافها تتحرك بمقتضى التضاد لأردوغان، عوضا عن التجمع لإنقاذ تركيا من مشروع الاستبداد والفساد والاستعباد، بمعنى أن الذي يجمع تحالف الأمة المتكون من مشارب فكرية وسياسية عديدة كامن في إبعاد أردوغان من الحلبة السياسية وليس بناء كتلة تاريخية وطنية قادرة على صياغة مشاريع الاستنهاض الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والمدني. وهنا بالضبط يتجسد الفرق بين أن تجتمع الأحزاب المتناقضة من أجل هدف انتخابي براغماتي محدد في الزمان والمكان والإنسان، وبين تأصيل مشروع إنقاذ جامع ومظلة مانعة يستقرئ فيها المواطن التركي سبيل التنمية والرقي للعباد والبلاد. من أسوأ تجسيدات الدكتاتورية في سياقها الناعم أو الصلب، أنها تخلق المعارضة التي تشبهها، فالناظر اليوم إلى عمق المشهدية الانتخابية التركية يتراءى له أننا حيال تحالف أول بقيادة أردوغان يسعى إلى تأبيد السلطة في يد الأخير، وحيال تحالف ثان برئاسة معارضي أردوغان يهدف أساسا إلى إسقاطه، وفي الحالتين يغلب الفرد على الوطن والشخص على المجموعة والذات على المشروع. اللافت أن هاجس المعارضة التركية بقي دائما في الاختيار على الشخصية الكاريزماتية القادرة على أن تقلب الطاولة على أردوغان، بمعنى أن المعارضة المطالبة بأن تفكر في أمانة الأمة وتوفير البديل عن ثقافة الشخص وموروث السلطنة تملكت واستبطنت مقولة الفرد، وعوضا عن أن تؤصل المشاريع الكبرى والتي بمقتضاها تنتج أجيالا من المصلحين والمفكرين المتنورين باتت تفكر في نقيض حيوي لأردوغان. وعندما انتقلت إلى الميدان الذي يحبذه أردوغان، مجال الديماغوجيا بديلا عن المأسسة، والأيديولوجيا عوضا عن التفكير والمشروع الإصلاحي، والدعاية عوضا عن الإنقاذ الشامل، لم تجد في سلة خياراتها ما يجعل الناخب التركي يشيح بنظره عن أردوغان، فالخيار المسلط على المقترع متمثل في الاختيار بين شخصيتين شعبويتين وليس بين مشروع شخصنة ومشروع وطني فوق الأشخاص. وعندما يصبح الاختيار بين إحسان داوود أوغلي وأردوغان في 2014، أو بين محرم إينجه وأردوغان في 2018 فإنّ التصويت سيكون لمن هو أكثر حضورا في الركح الدعائي والأكثر قدرة على الدمغجة والشعبوية وليس لمن يرافقه مشروع الإصلاح الشامل والإنقاذ الكامل. وهنا بالضبط يحضر الإشكال الكبير الذي تعيشه تركيا منذ نحو 8 سنوات، إشكال الاحتضار شبه الكامل للمجتمع المدني وللمجال العمومي الديمقراطي والتعددي، فالانتخابات ليست سوى فعل ديمقراطي يتكرس بمبدأ دمقرطة الحياة السياسية والمدنية، وليست ولن تكون منظومة الديمقراطية بحدّ ذاتها. العديد من المقاربات السياسية تتحدث عن جدوى وقيمة التنافس الانتخابي في ظل استهداف لمبادئ الديمقراطية بمعناها التشاركي والتفاعلي والرقابي، وفي ظل مناخ من الانقلاب الأردوغاني على كافة مجالات الحياة العامّة. فأنْ تتحوّل تركيا إلى سجن كبير للصحافيين والقضاة المستقلين والمحامين المعارضين والسياسيين النقاد والكتاب والرواة والناشطين في المجتمع المدني والاستراتيجيين والكفاءات الجامعية الرافضة لأردغنة الدولة، وأن تكمم الأفواه بصيغة لا تأتيها إلا عتاة الأنظمة الشمولية، يؤكّد بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ مفهوم وثقافة الدمقرطة غائب في تركيا حتى وإن حضرت الديمقراطية في سياقها المباشر. وفي مثل هذه الحالات يكون على المعارضة واجبان اثنان وهما النضال المشترك وطرح المشاريع الشاملة، أي في المحصلة الانتهاء إلى مقولة غرامشي الشهيرة “الكتلة التاريخية”، وليس قبول بقواعد اللعبة الأردوغانية الكامنة في ضرب الحياة السياسية بالديمقراطية الشكلية. هل تعاني المعارضة التركية من مشكلة التصلب والتحنيط السياسي الذي تعانيه أحزاب المعارضة أم هي تعاني إشكالية أولويات ومحنة صراع الشخصنة أو من داء حب العودة إلى السلطة بأي الأثمان، خاصة حزب الشعب الذي فقد السلطة والشعبية والشرعية منذ 2002، أيا كانت العوارض والمحددات فإن المعارضة باتت مريضة بعدوى الاستبداد الأردوغاني وأصبحت تدور من حيث تدري أو لا تدري في الفلك الذي يريده لها السلطان. ولأن الإشكاليات التي تطرحها الانتخابات التركية جد عميقة، وبمنأى عن الأرقام الاقتصادية التي تتحفنا بها بعض وسائل الإعلام عن سقوط الليرة والتضخم ومشاكل البطالة، فلا بد من البحث أيضا في ميكانيزمات الاقتراع لدى الناخب التركي ولا سيما في هذا السياق الدولي المرتبط بعودة الشعبوية السياسية والقوميات الوطنية والشخصيات النافذة. السياق الذي يتماهى معه أردوغان أكثر من غيره متجسّد في ثلاثية الديماغوجيا والأيديولوجيا والدعاية والإعلام، وهنا يتماهى أردوغان مع قيصر روسيا فلاديمير بوتين من حيث مقولات الأمة الصاعدة وسحق المجال العمومي الديمقراطي وتقديم صورة الشخص الدولة، كما تنصهر صورته مع ترامب في المحافظة على الأمة الأميركية ورفض الهجرة ومعاداة الإعلام والمجتمع المدني والترويج لصورة المنقذ من سنوات ارتخاء القبضة الأميركية. وحتّى في هذا السياق لم تنتبه المعارضة التركية بما يكفي للإشكاليات العميقة التي تسببها مخاطر التحول من النظام البرلماني إلى الرئاسي، ومن الرئاسي إلى الأبوي، ومن الأبوي إلى السلطاني، وكانت مثل شاهد الزور يعرف الحق ويسكت عنه ويرى الظلم الحضاري ويتجرع كأس مرارته. القضية في تقـديرنا مرتبطة بضرورة عودة الديمقراطية إلى تركيا والمواطنة الفعلية إلى الشعب التركي، وإسقاط الانقلاب الشامل الحاصل منذ محاولة الانقلاب في صائفة 2016، عبر تعميم فكرة المجتمع المدني والمجال العمومي التعددي، والأهم إجراء مصالحة شاملة بين الأحزاب العلمانية والهوية الدينية، والبحث عن توليفات ديمقراطية مدنية تنهي احتكار أردوغان للدين الإسلامي، وتكريس مقاربات التعددية الثقافية حيال الأكراد حتى يتمتعوا بوطن تركي حقيقي يحفظ المواطنة الثقافية والسياسية واللغوية. لن نجانب الصواب إن اعتبرنا أنّ تركيا في حاجة إلى من هو أحسن من أردوغان قيادة وحكما وأفضل من المعارضة في اجتراح الأفكار وتأصيل المقاربات وتأسيس مشاريع الإصلاح وبناء الكتلة التاريخية. تركيا في حاجة إلى مشروع تنموي شامل وكامل يبدأ من حيث الاعتراف بالآخر سياسيا وثقافيا ولغويا وإحياء لمدونة الإصلاح والمصالحة.
مشاركة :