في خطوة يُمكن وصفها بأنها تهوّر كبير، أولا مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ثم مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، اختار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يلعب لعبة قاسية هذا الشهر بإطلاق عمليته العسكرية في سوريا. تلك اللعبة ستؤتي أُكلها، خاصة في المشهد السياسي في الداخل، والذي يمثل ساحة حيوية بالنسبة إلى الرئيس التركي. كانت نتائج الانتخابات البلدية التي أُجريت في مارس الماضي صدمة هزّت أردوغان، لكنها لم تُغيّره، وقد نجح في الخروج من الهزيمة الواضحة التي مُني بها، في صورة المنتصر الذي، كما قالت وسائل الإعلام الموالية له، “قَوّم ترامب”. اقترب الرئيس أكثر من أهدافه السياسية في الداخل، والمتمثلة في إصلاح الدمار الذي لحق بحزبه، وإسكات المعارضين في حزبه، واستبعاد فكرة إجراء انتخابات مبكرة، وقمع المعارضة الوطنية، وشل المعارضة الكردية. وقد أدى نهج تحقيق التوازن من خلال افتعال الأزمات إلى ظهور نزعة عسكرية اجتاحت خصومه. وقال مصدر مطّلع مقرب من القصر الرئاسي إن استطلاعات الرأي التي تُجريها الرئاسة تشير إلى أن معدل القبول بأردوغان كان 30 بالمئة قبل الغزو، لكنه ارتفع الآن إلى نحو 40 بالمئة. ومن الواضح أن السياسيين سيحاولون تعظيم هذا الأثر بألاعيبهم السياسية. وفي الوقت الذي تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط تحولا تاريخيا، في ظل انسحاب الولايات المتحدة من سوريا والتعاون العسكري التركي غير المسبوق مع روسيا، ما الذي من الممكن أن نتوقّعه في ما بعد في السياسة التركية. بعد الهزيمة في انتخابات مارس المحلية، رأى أردوغان أن خياره الأمثل هو تصعيد الصراع على طول الحدود. وكانت تركيا ومعارضتها تتعرضان لخطاب وحدوي مكثف حول شمالي سوريا وشرقي المتوسط وبحر إيجه. وكان لدى أردوغان الوقت لتقييم المجتمع التركي وليعرف أنه سيكون المستفيد الأول من القومية المتشددة التي تجمع الأغلبية الساحقة من التّرك، سواء كانوا متدينين أو علمانيين، إسلاميين أو أتاتوركيين، قرويين أو أهل مدن، شبابا أو شيبا. كان الرئيس يعرف أنه سيلقى تأييدا كبيرا لشن هجوم ضد من تنظر إليهم قطاعات عريضة من المجتمع على أنهم أعداء مشتركون، باستثناء الأكراد، وعدد قليل من الليبراليين وأنصار الديمقراطية الاجتماعية. وكان يعرف أن أيا من أحزاب المعارضة لن يستطيع أن يرفض جنون الحرب. وكان يعرف أنهم سيتكيفون على الفور مع خطاب الدولة، ويقولون إنهم مستعدون لتشكيل ائتلاف وحدة إذا لزم الأمر. وقد كان محقا. فقد ذهب حزب المعارضة القومي، الحزب الصالح، وإسلاميو حزب السعادة، إلى أبعد من ذلك كثيرا، فانتقدوا أردوغان بسبب عدم شن حرب قوية بما فيه الكفاية. وأيّد حزب المعارضة الرئيس، حزب الشعب الجمهوري، الغزو في البرلمان، لكن موقفه تحلحل بعد ذلك، فأخذ يُرسل رسائل متباينة هاجم فيها ترامب والولايات المتحدة، بدلا من أن يهاجم أردوغان. ولم يتبق شيئا من الجناح الناقد في حزب الشعب الجمهوري، ذلك الجناح الذي عمل جاهدا لضمان حصول تحالف المعارضة على الأصوات الكردية في الانتخابات البلدية. وكما كانت حسابات أردوغان، فإن المعارضة كانت قد نضجت بما فيه الكفاية لخططه الرامية إلى تحويلها إلى “أحزاب بالاسم فقط” تُذكرنا بالأحزاب في أذربيجان. وتبددت الآمال التي خلقها فوز المعارضة في الانتخابات البلدية، كما تبدد شعار “كل شيء سيكون على ما يرام”، الذي رفعته تلك المعارضة في تلك الانتخابات. وكان لمداهمات الشرطة واعتقال أي شخص يتفوه بكلمة “لا للحرب” أو “السلام” أثر كبير. وفقدَ حزب الشعب الجمهوري الزخم الذي حققه في الانتخابات البلدية. ومع انعدام انسجام الحزب السياسي وافتقاره إلى الاستراتيجية لم يعد أمام الحزب أي خيار سوى أن يبقى متخبطا خلف أردوغان. ومن الصعب توقّع تبعات خيبة الأمل التي أصيب بها ناخبوه، لكن كل ما يمكن قوله هو أنهم على الأرجح سيواجهون إحباطا شديدا. نجح أردوغان أيضا في تبديد حالة السخط وعدم الرضا داخل حزبه، وإحباط تحركات كبار حلفائه السابقين الرامية إلى تأسيس حزب جديد؛ فقد أظهر رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو دعمه للخط الرسمي، بينما التزم الرئيس السابق عبدالله غول، ووزير الاقتصاد السابق علي باباجان الصمت. وكان مؤيدو غول وباباجان يتوسلون إليهما للتعجل بتعظيم الاستفادة من الزخم الذي خلقه فوز المعارضة في الانتخابات البلدية. لكنهما، في أفضل الأحوال، لن يستعيدا الأرضية التي خسراها قبل حدوث الأزمة التالية. أما في الوقت الحالي، فإنهم يعانون من الضياع ومعرّضون للخطر. وبالتأكيد، فإن الضحية الأولى هم أكثر من 14 مليون كردي يعيشون في تركيا وحزبهم، حزب الشعوب الديمقراطي، ثالث أكبر حزب في البرلمان، والذي يؤيده أكثر من ستة ملايين ناخب. فقد تمت شيطنة الحزب بشكل كبير، في الوقت الذي لا يهتم فيه أردوغان، ولا حزبه، ولا المعارضة، بحجم الوحشية التي يعاني منها النواب المنتخبون من حزب الشعوب الديمقراطي في ظل سُعار القومية هذا. وتضاف مأساة الأكراد في تركيا إلى مأساة الأكراد في سوريا، فقد كان الناخبون الأكراد في تركيا أول من عوملوا بعدم احترام عندما أُطيح برؤساء البلديات، الذين انتخبوهم من مناصبهم ليحل محلهم مسؤولون عيّنتهم الحكومة. بعد ذلك، ظلوا يراقبون في خوف، في حين كان يتم الزجّ ببعض رؤساء البلديات في السجون. تعرض الناخبون الأكراد أيضا للخداع من تحالف حزب الشعب الجمهوري مع الحزب الصالح. فقد كان تصويت الأكراد التكتيكي هو السبب في فقد أردوغان السيطرة على خمسة مجالس مدن كبيرة. لكن عندما انطلقت موجة القمع ضد حزب الشعوب الديمقراطي، لم يقف حزب الشعب الجمهوري ولا الحزب الصالح للدفاع عن الديمقراطية. ويستطيع أردوغان الآن أن يكسر ظهر حزب الشعوب الديمقراطي، وأن يهدم كيانه، بل وأن يسجن جميع قياداته إذا لزم الأمر. وسيتجنب أردوغان إغلاق الحزب تكتيكيا، حيث سيكون الإغلاق بحكم الأمر الواقع كافيا، لأن الإغلاق بحكم القانون قد يثير ردود فعل من الغرب. في الوقت ذاته، فإن أكراد سوريا هم أيضا ضحايا على نطاق واسع، فقد خسروا الآلاف من المقاتلين في المعركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وقُتل منهم المئات في الغزو التركي.