الكاتب اليمني المقيم في السعودية عبدالله ناجي (1974) صدرت له أخيراً رواية «منبوذ الجبل» (دار مسكيلياني- تونس)، بعد ثلاثة دواوين: «أتصاعد في الصمت»، «الألواح»، و «منازل الرؤيا». الرواية حازت قبولاً نقدياً كبيراً، لا سيما بسبب جرأتها في تناول حياة بطلها «أحمد بن يحيى الحداد». هنا حوار معه: > كيف حدث هذا الانتقال من الشعر إلى السرد؟ لم تكن كتابتي للرواية انتقالاً من الشعر إلى السرد، وإنما هي في إطار انفتاح على عوالم أدبية وفنية متعددة. شعرت في وقت بأن المساحة التي تمنحها لي القصيدة لم تعد كافية لكل الأفكار والأحداث والتفاصيل الكثيرة التي تتزاحم داخل رأسي، وكان السرد ومنذ وقت طويل يتسرب إلى وجداني كحقل فني يمكنني الركض فيه. نعم ابتعدت عن كتابة الشعر قليلاً، ولكنني لا أشعر أنني انقطعت عنه، وحتى أثناء كتابتي للرواية كان الشعر يتخلل أوقاتي، وربما كلماتي وسطوري، ولكن إن سألتني الآن هذا السؤال: إذا كان الشعر عن يمينك والسرد عن يسارك فإلى أين يميل قلبك؟ فسأقول ومن دون تردد: إلى اليسار. > قارئ «منبوذ الجبل» لا يتبادر إلى ذهنه أنها العمل الروائي الأول، كيف استطعت تجاوز الهفوات والهنات المصاحبة للعمل الأول عادة؟ - أنا سعيد بهذا الرأي كثيراً. لعل السبب يرجع إلى الاطلاع المعرفي والفكري المتنوع. الأمر الآخر المهم هو الجهد. دوماً أتذكر مقولة الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو: «العبقرية عشرة في المئة إلهام، وتسعون في المئة مجهود». > اخترت أن تمنح الفصل الأول من «منبوذ الجبل» الرقم «صفر»... هل هذا بسبب البناء الدائري للرواية؟ - لم تكن ضرورة فنية، بقدر ما كانت حيلة نفسية، وامتداداً روحياً إلى ما قبل الحياة، حيث العدم/ الصفر، ثم العودة إلى الصفر مرة أخرى بحسب البناء الدائري للرواية. وبما أن القصة بدأت قبل ميلاد «أحمد الحداد»، بطل الرواية، كان من المناسب أن يُمنح أول فصل من فصولها الرقم الصفر، ثم تتوالى الفصول، وتتابع الأرقام مع تصاعد الأحداث، وتمدد الحياة بأحمد، وتشعبها داخل مدينته. > تعرض في الرواية حياة الأزقة في مكة... ألم تخش من إصرار المجتمع على التشبث بوجه واحد لمدينةٍ لها وجوه عدة؟ - «الكتابة الحذرة كتابة ميتة»؛ كما قال بوكوفسكي في سيرته الذاتية «مكتب البريد»، وإن كنت سأتخذ تلك الخطة فلا حاجة للكتابة. لا يمكن أن ننتج أدباً ذا قيمة إنسانية إذا كنا سنسير في الشوارع الرئيسة والطرقات المعبدة في الحياة، من دون أن نلتفت إلى الشوارع الخلفية والأزقة الضيقة، والجبل البعيد، كذلك لن ننتج ذلك الأدب السامي، إذا كانت المعاني ستتخفى خلف ستار كثيف من اللغة المجازية، أو الرموز. ربما يصدق ذلك في الشعر أحياناً، أما الرواية فهي «هروب إلى الواقع»؛ كما وصف جون ويليامز روايته «ستونر». إن ذلك يعني أن الرواية مرآة كاشفة لخبايا المجتمع وأدق تفاصيله، والزوايا المهملة فيه. تفتح الأبواب المغلقة، وتشرع النوافذ للشمس والهواء والكلمات، تلك التي تنهمر من يد الكاتب لتصور الحياة من زوايا داكنة. وأنا أحببت أن أكتب عن مكة التي عشتها وأعرفها، لا مكة المدونة في كتب التاريخ والروايات الأخرى. أعتقد أن لكل كاتب مدينته الخاصة. > الحضور النسائي في الرواية مميز جداً، فهي أم وأخت وحبيبة وعاشقة مجنونة أو عاشقة شجاعة ومبادرة... كيف استطعت توظيفهن من دون أن تترهل تلك الشخصيات بين يديك؟ - كنت أجنح إلى رؤية فنية، مبتعداً عن التعاطف الكتابي، أو التداعي اللامنطقي للأحداث محاباة لهذه الشخصية أو تلك. وحتى لا أنزلق إلى التعلق بشخصياتي، وأغرقهن في أدوار البطولة، فالحياة ليست كما نشتهي دائماً، وشخصياتي النسائية أخذن نصيبهن من تلك الحياة. > يقولون إن «الرواية الجيدة في أحد وجوهها، هي جغرافيا جيدة»... ما مدى اقتناعك بهذه المقولة في ظل روايتك التي تحتفي بالمكان؟ - في اعتقادي، المكان ليس مجرد إطار جغرافي تدور فيه أحداث الرواية، بل هو أحد عناصرها الفنية، تتحرك فيه الشخصيات ويتحرك معها، وبه تصطبغ الحالات النفسية لأبطاله، مثل أن يكون المكان سجناً أو غرفة ضيقة كما في رواية «البومة العمياء» لصادق هدايت. وهو كذلك الفضاء الذي تتدفق منه وإليه بقية عناصر العمل الفني، وأتفق إلى حد كبير مع مقولة «الرواية الجيدة جغرافيا جيدة»، خصوصاً في الأعمال التي تتكئ على المكان في توليد الأفكار والأحداث والمفاهيم الخاصة والمميزة للعمل، بل ويتحول المكان إلى بطل أحياناً، أو يتقاسم دور البطولة مع شخوص الرواية. > لماذا أصدرت الرواية عن دار نشر تونسية؟ - حين انتهيت من كتابة الرواية، لم تكن هنالك دار نشر معينة في بالي، والذي حدث هو أنني أرسلت إلى عدد من دور النشر في الداخل والخارج، تجاوبت معظمها، ورحبت بطباعة الرواية، وقع اختياري على دار «مسكيلياني» من تونس، كونها تهتم بالأعمال الجادّة في الفكر والإبداع، وتحفل بعناوين مهمة وقوية في عالم الرواية، العربية والمترجمة. ثم طمعاً في التوزيع والانتشار الجيد في العالم العربي، وترجمة العمل بعد ذلك. > كيف تؤثر مسألة الجنسية، على كتابتك، سواء سلباً أو إيجاباً، وهل تشكل عائقاً في سبيل النشر أو غيره من الأمور مثل التقدم للجوائز أو المنح أو دعوات حضور الملتقيات الأدبية؟ - أظن أن الأمر يختلف من كاتب إلى آخر، ولكني لا أستطيع الجزم بنفي تأثيرها سواء كان سلباً أو إيجاباً، فالكاتب يخضع لحالاته النفسية كثيراً، ومعلوم مدى تأثير الجنسية على النواحي النفسية والاجتماعية وغيرها... ولكن الكاتب الجيد هو من يحول كل ألم إلى أمل، أو يحفر في ذلك الحزن ليخرج لنا أعمق وأصدق النصوص. وتبقى مسألة الدعوات والملتقيات مرهونة بمصادفات الحياة ومفاجآت الأصدقاء، والجهد الذاتي المضاعف. > كتبت الشعر والرواية، فأين أنت من القصة القصيرة؟ - قد لا أذيع سراً إن قلت بأنني كتبت القصة القصيرة أيضاً، ولكن لم يحن الوقت لنشر ما كتبته، لإيماني الخاص ربما بأن لكل مرحلة وقتها المناسب، ووقت القصة بالنسبة لي لم يأت بعد، والأمر الآخر هو أنني لست راضياً بعد عما كتبت، وربما سبب ذلك هو أنني شديد النقد لنفسي. > كيف ترى المشهد الروائي عربياً؟ - هناك احتشاد للرواية والروائيين في المشهدين المحلي والعربي، وذلك أمر جيد إلى حد ما، وبالطبع ليس كل ما يكتب على أنه رواية يدخل في بابها، ذلك أن بعضاً من تلك الأعمال تفتقد إلى عناصر السرد أو بعض منها، ولكن الجميل والذي لاحظته أخيراً هو وجود قرّاء نوعيين للرواية، تزايد عددهم في العالم العربي مع تزايد الإقبال على الرواية، هؤلاء القرّاء يقومون بمراجعة تلك الأعمال وتقييمها من دون أن يكون لاسم الكاتب وزن في ذلك التقييم، مهما كان كبيراً وذا تجربة روائية عريقة، إنما ينصب اهتمامهم على النواحي الفنية داخل النص من لغة وشخوص وتقنية وغير ذلك. صحيح أن بعضهم ينطلق في نقده ومراجعته من زاوية ذاتية، ولكن الكثير منهم يفحص تلك الأعمال بنظرة موضوعية تمتلك أدوات الوعي الفني، والدربة النقدية. ونظرة سريعة على بعض المواقع التي تعتني بالكتب وتقييمها مثل الموقع العالمي «جود ريدز» تكشف مدى امتلاك القارئ العربي مهارات القراءة الفنية والموضوعية، بعيداً من مؤسسات الثقافة ورجال النقد المرموقين. ذلك القارئ النوعي سيجعل الكاتب أكثر جدية واهتماماً بالنص الروائي.
مشاركة :