تؤكد نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي جرت في تركيا يوم الأحد 24 يونيو الجاري أن الطريق أمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتنفيذ سياسته المحلية والإقليمية آخذ في الاتساع، وخاصة بعد أن أظهرت النتائج حصول «تحالف الشعب» برئاسة أردوغان على الأغلبية المريحة من أصوات الناخبين، وبالتالي فإن الرئيس أردوغان، صاحب الموقف القوي والداعم لمشروع التحول إلى النظام الرئاسي بدلا من البرلماني المعمول به في تركيا، يكون قد حقق واحدا من أهم طموحاته السياسية رغم المعارضة الشديدة والواسعة للنظام الرئاسي؛ خوفا من أن تتحول تركيا رويدا رويدا إلى نظام الفرد الواحد المطلق الصلاحية، ذلك أن الديمقراطية التركية لم تترسخ جذورها في المجتمع التركي بعد، رغم كل الانجازات التي تحققت وتقدمها الكبير بالمقارنة مع ما هو في محيطها الشرقي. في بداية صعود نجمه السياسي طرح السيد أردوغان توجها سياسيا إيجابيا يطمح من خلاله إلى تعزيز علاقاته مع دول الجوار من خلال مبدأ تصفير المشاكل، وقد شرعت تركيا بعد ذلك في نسج علاقات إيجابية ومتطورة مع دول الجوار، وخاصة سوريا والعراق اللتين اتسمت علاقاتهما مع تركيا تاريخيا بالضبابية وعدم الوضوح وأحيانا كثيرة بانعدام الثقة، لكن سياسة التصفير هذه لم تدم طويلا، فسرعان ما انهارت تماما مع تفجر ما سمي موجات «الربيع العربي» في أكثر من دولة عربية وتصدر جماعات الإسلام السياسي العربية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين مشهد التحركات الشعبية، وهو ما دفع تركيا للوقوف إلى جانب هذه التحركات على أمل أن تسهم في توسيع دائرة النفوذ الجغرافي والسياسي لأشقائها من الإخوان المسلمين في أكثر من دولة عربية شهدت مثل هذه الموجات. بسبب الموقف التركي هذا، ساءت علاقاتها مع القاهرة ووصلت إلى ما يشبه القطيعة السياسية، وخاصة بعد الإطاحة بنظام حكم الإخوان المسلمين برئاسة محمد مرسي، وانجر ذلك على علاقات تركيا أيضا مع دول الجوار وخاصة سوريا، إذ بعد تفجر الأوضاع في هذا البلد عام 2011 يكون النظام في تركيا قد شطب نهائيا سياسة تصفير المشاكل إذ انخرطت تركيا مباشرة في النزاع الداخلي السوري من خلال تبنيها ما يسمى بالمعارضة السورية، وتحولت الحدود التركية السورية إلى خطوط إمداد وتدفق للمقاتلين من شتى بقاع المعمورة، الأمر الذي اسهم في تحويل سوريا إلى مركز استقطاب لكل الجماعات الإرهابية مثل «القاعدة» وما سمي بــ «داعش» وغيرها من هذه الجماعات. في أول تصريحاته التي أعقبت التأكد من فوز الائتلاف الذي يقوده، صرح الرئيس التركي بأن بلاده عازمة على «تحرير» سوريا مما أسماها بالجماعات الإرهابية لكنه لم يسم من يعتبرهم جماعات إرهابية، وإنما اكتفى بالإشارة إلى التنظيمات الكردية، مثل حزب العمال الكردستاني التركي وحزب الاتحاد الديمقراطي وغيرها من الأحزاب الكردية المختلفة، مع أن سوريا مليئة بالتنظيمات الإرهابية مثل «النصرة» و«داعش» ومن هم على شاكلتهما، ثم كيف يتحدث الرئيس التركي عن «تحرير» سوريا في الوقت الذي تحتل فيه قواته مساحات شاسعة من الأراضي السورية مخالفة بذلك القوانين الدولية التي تمنع التعدي على سيادة وحدود الدول المستقلة. بعيدا عن كل ما مضى، فإن تركيا على أعتاب مرحلة سياسية جديدة وأن نتائج الانتخابات الأخيرة تثبت المكانة القوية التي يتمتع بها حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس أردوغان، وهذه القوة والمكانة الجماهيرية التي يتمتع بها الرئيس التركي وحزبه هي بمثابة سيف ذي حدين، والخطورة ألا تأخذ النظام التركي العزة بهذه القوة وهذه المكانة ليواصل التوغل في السياسة الخاطئة التي ينتهجها إزاء دول الجوار، وتحديدا الجوار السوري، أو أن يتمسك بوهم تسليم سوريا لجماعة الإخوان المسلمين، فهذا الوهم أخذ في التلاشي بعد التطورات السياسية والعسكرية الكبيرة التي شهدتها وتشهدها سوريا، وخاصة بعد أن دخلت روسيا بقوة على خط الأزمة وثبتت وجودها العسكري القوي ونفوذها السياسي فوق الأرض السورية. أثبتت التجارب والسنوات الماضية، خاصة من عمر الأزمة السورية أن السياسة التي اتبعها الرئيس التركي حيال هذه الأزمة كانت سياسة خاطئة وغير مجدية، بل أضرت بسمعة تركيا السياسية وهددت أمنها بشكل خطير، تأكد ذلك من خلال ما شهدته المدن التركية من تفجيرات إرهابية دموية تبنتها علنا جماعات إرهابية، «داعش» مثلا، وهي نفس التنظيمات التي تحارب النظام السوري ودخلت عناصرها، مع تسهيل مرور العتاد العسكري الخاص بها، إلى سوريا عبر الحدود التركية، فتركيا تكبدت خسائر كبيرة جراء الأزمة السورية، لا تتمثل فقط فيما سببته الأعداد الهائلة من اللاجئين السوريين الذين هربوا من جحيم المعارك التي شهدتها مناطقهم من ضغط على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية للشعب التركي، وإنما بسبب تصاعد التهديدات الأمنية ضد تركيا. مازالت أبواب سياسة تصفير الأزمات التي تبناها الرئيس طيب أردوغان لم تغلق بعد، وهي سياسة إذا ما التزم بها الرئيس التركي التزاما أمينا فإنها لا تخدم مصالح دول الجوار فقط وإنما تخدم مصالح الدولة التركية بالمثل أيضا، فهل يستغل الرئيس التركي التطورات الإيجابية التي تشهدها الساحة السورية وتلاشي وهم إسقاط النظام السوري، وكذلك التطورات السياسية والأمنية التي يمر بها العراق، ليطلق من جديد العنان لتلك السياسة الحكيمة التي بشر بها في الماضي.. الأوراق معظمها بأيدي الرئيس التركي، وخاصة أنه يتجه نحو النظام الرئاسي الذي تحمس له بقوة، وأعطته نتائج الانتخابات الأخيرة التفويض الشعبي لتطبيقه.
مشاركة :