في سنة 1977 ألقى الروائيّ الأرجنتينيّ خورخي لويس بورخيس محاضرةً باللغة الإسبانية عنوانها «الليالي العربيّة»، وهي واحدةٌ من سبع محاضرات ألقاها تناولت موضوعات استثنائيّة شكّلت لديه هواجس أساسية، والمحاضرات الأخرى كانت عن الكوميديا الإلهيّة، والبوذية والشعر والقابالا اليهودية والعماء (كونه كان كفيفًا). وقد جعل بورخيس هذه المحاضرات «الكتاب/ الوصية» الذي أراد من خلاله أن يرسل رسالة إلى متلقي أدبه وإلى القراء في كافة أنحاء العالم. لقد كان بورخيس وهو المهووس بسرديات الشرق السحرية مهووسًا كذلك بتقديم تاريخ عجائبيّ لكتاب (ألف ليلة وليلة) أو (الليالي العربيّة)، حسب مصطلح المستعربين والمستشرقين. ولذلك نجده يذكر في هذه المحاضرة «عاد المقاتلون من الحروب الصليبية جالبين معهم الذكريات، منها، على سبيل المثال، ذكريات عن الأسود. لدينا الصليبيّ الشهير ريتشارد قلب الأسد. والأسد الذي دخل في الشعارات هو لحيوان شرقي، لا يمكن لهذه القائمة أن تكون غير متناهية، ولكن لنتذكر الرحّالة ماركو بولو، الذي يكوّن كتابه اكتشافًا عن الشرق (وكان خلال فترة طويلة أعظم اكتشافاته)، ذلك الكتاب الذي أملاه على زميل له في السجن بعد معركة تغلّب بها الجنويون على البنادقة. في الكتاب أول تاريخ للشرق، وفيه على وجه التحديد، يجري الحديث عن قوبلاي خان، الذي سيظهر مرة أخرى في شعر لكوليريدج». أشرتُ في مقالتي السابقة إلى كون بعض الحكايات التي اشتهرت على أنها من المتون الأساسيّة لكتاب (ألف ليلة وليلة) لم تكن سوى تزوير واختلاق قام به كل من القاص الحلبي الماروني حنّا دياب وكذلك المثقف الفرنسيّ المترجم غالان صاحب أول ترجمة أوروبية لكتاب ألف ليلة وليلة. وقد بيّنتُ كذلك اختلاق بعض الحكايات مثل حكاية علاء الدين والمصباح السحريّ التي لم ترد سوى في بعض المتون الأوروبية ومنها ترجمة غالان. وفي كتاب (الليالي العربيّة المزوّرة) الذي حرّره وقدّم له الأكاديميّ بجامعة سان باولو بالبرازيل محمد مصطفى الجاروش عن منشورات الجمل هناك إشارات مفصَّلة عن حكاية الحكايتين، ويقصد بهما (علاء الدين وعلي بابا). يذكر الجاروش أنه توجد حول النصين المنشورين إشكالية لا تخفي على الباحثين هي مصداقيتهما. ويختزل الجاروش أطروحة كتاب (الليالي المزوّرة) بالقول بأنه رغم الاعتراف العالميّ بكون حكايتي علاء الدين وعلي بابا عربيتين، ليس هناك نصوص متداولة عربيًا لهاتين الحكايتين، وأنَّ نصهما العربيّ الوحيد موجود بمخطوطتين مودعتين بالمكتبة الأهلية في باريس، ناسخ الأولى القسيس السوريّ ديونيسيوس شاويش، الذي طُرِد من فرنسا إثر ثورة 1789, والثانية المغامر اللبنانيّ ميخائيل الصبّاغ، المولود سنة 1775 أو1784 والمتوفي سنة 1816. وقد قام بنشرهما للمرة الأولى والأخيرة المستشرق الفرنكو - بولاندي زوتنبرغ في سنة 1888 في باريس، ولم يشكك أحد بالنص جديًا حتى جاء الأكاديميّ العراقيّ محسن مهدي في سنة1984 وقال إنَّ هذا النص ليس إلا مجرد تزوير من غير أيّ قيمة علميّة أو أدبيّة. يشتمل كتاب (الليالي المزوّرة) على النصين الكاملين لهذين النصين المزورين المختلقين وهما (حكاية علي بابا مع اللصوص الأربعين والجارية مرجانة على التمام والكمال) و(علي بابا والأربعون حراميًا). كما يشتمل هذا الكتاب على مقدمات تأسيسية في غاية الأهمية منها مترجمو ألف ليلة وليلة ومنها محاضرة خورخي لويس بورخيس كاملة عن ألف ليلة وليلة، وقد ترجمها الجاروش من الإسبانية إلى اللغة العربيّة. عندما قرأتُ كتاب (الليالي المزوّرة) بتمعن أيقنتُ أننا بحاجة إلى التعرف إلى مصادر كثيرة فيما يتعلق بدراسة الأدب العربيّ وعدم الاتكاء فقط على الدراسات الاستشراقيّة الأشهر. فقد قدّم لنا الأكاديميّ الجاروش مصادر في غاية الأهمية ومكتوبة باللغة الإسبانية تجعلنا نعيد النظر مرة أخرى في كتاب إشكالي جدًا هو (الليالي العربيّة) أو (ألف ليلة وليلة)، والكتاب المتشظي اللانهائي الذي امتزجت تفاصيله بمئات المصادر الشفاهية في الثقافة العربيّة والثقافات الأخرى. وهو الكتاب الذي سأصفه بالكتاب الكونيّ الذي يقدم لنا سرديات كونية في غاية الجمال بخزان رمزي اختزل كثيرًا من ثقافات العالم القديم آنذاك كي يعيدها إلينا في صورة متخيل (عجائبيّ). قد يكون كتاب (عجائب العالم) للرحَّالة البندقيّ ماركوبولو هو أول وصف أوروبي لبلاد الشرق ومدائنه القصية، ولكن كتاب (الليالي العربية) فاق كتاب ماركوبولو في كونيته الاستثنائية. وختامًا أقول أنصحكم دائمًا بقراءة مجموعة من الكتب التي تتحدث عن موضوع واحد في فترة زمنية متقاربة كي تستطيعوا المقارنة: لقد قرأتُ كتابي (من حلب إلى باريس) و(الليالي المزوّرة) في الفترة نفسها، ووجدتُ أنَّ ما أراده الكتاب الأول موجود بالتفاصيل الدقيقة وبالشواهد والأدلة في الكتاب الثاني، ووجدتُ كذلك أنَّ هذين الكتابين زوداني بمعرفة نقدية جعلتني أعيد النظر في كثير من الأحكام المسبقة والجاهزة الخاصة بكتاب (ألف ليلة وليلة). المعرفة الحقيقية من وجهة نظري هي ذلك الوعي والشغف الذي يسكنك بعمق من الداخل ويزودك بمعرفة نقدية تجعلك تعيد النظر في معرفتك السابقة، وتنظر إليها من زوايا نقدية حقيقية. أستاذة السرديات والنقد الأدبي الحديثّ، كلية الآداب، جامعة البحرين
مشاركة :