من الكتب المهمة التي قدمته لنا «المنظمة العربية للترجمة» كتاب «نقد العقل المحض» للفيلسوف الألماني إمانويل كنت، وهو أحد أبرز الفلاسفة الذين أسسوا الفلسفة الترانسندنتالية، التي حصلت من الفلسفة الألمانية، أهم التيارات الفلسفية، وهو تيار يعود في الأيام الحاضرة إلى الانتشار، وقد ترجمه غالب هنا، وهو سبق أن درس الفلسفة في جامعات عديدة. ومن المعروف أنه بعد صمت دام سبع سنوات خرج هذا الفيلسوف عام 1781 ميلادية بكتابه هذا ليتبعه بعد سبع سنوات أخرى بالطبعة الثانية المنقحة، ملخصاً فيه نقده الميتافيزيقي بثلاثة أسئلة: ماذا يمكنني أن أعلم؟ ماذا علي أن أفعل؟ وما الذي يحق لي أن آمله؟. وقد اعتمدت كلتا الطبعتين في هذه الترجمة إلى اللغة العربية، على الرغم من أن القارئ العربي قد يقع في بعض الإرباك أثناء القراءة، إلا أنه سيحصل بالمقابل على نص كامل يُقرأ بتمعن. في هذا الكتاب الذي قال فيه الفيلسوف شوبنهاور «إنه أهم كتاب كُتب في أي وقت كان بأوروبا» فلا ريب في أن اعتماد كنّت على الفهم العامي، وعلى الإنسان العادي وعلى أهمية صدقه وصدقيته، قد حث الفلاسفة على الاقتراب من واقع الناس وهمومهم، وأبطل «الأبراج العاجية» للفلسفة. إن من اتبع الفلسفة الكنتية «نسبة إلى كنْت» الترانسندنتالية يدرك أبعاد القول الشائع «بإمكانك أن تكون مع كنْت أو أن تكون ضده، لكنك لا تستطيع أن تتفلسف من دونه». الكتاب في نحو 880 صفحة، إذ نقل إلى العربية مرتين: الأولى عن الإنجليزية لأحمد الشيباني «وهو سوري - سعودي» توفي قبل عشرين سنة، والثانية عن الفرنسية لأستاذ الفلسفة د. موسى وهبة، وصدر عن مركز دراسات الوحدة ضمن مشروع الفيلسوف السوري د. مطاع صفدي للينابيع، وفي حين لم يعثر على الترجمة الأولى تتبع المترجم لترجمة الثانية بدقة. إلى ذلك اعتمد المترجم ترجمته عن الألمانية، وهو النص المنشور في دار «فيليكس ميتر» وأكملها بالعودة إلى طبعة «سور كمب» ووضع إلى جانب النصين ترجمة إنجليزية - فرنسية - وإيطالية، كان يعود إليها كلها بعد نقل النص الألماني إلى العربية لتكون له سنداً في اليقظة والدقة، ويشير المترجم إلى أنه لا بد أن يلفت نظر القارئ، في حال أراد العودة إلى ترجمات باللغة المذكورة إلى أن الترجمة الإنجليزية كثيراً ما تحذف جملاً لا بل فقرات. أما الترجمة الإيطالية، فهي، كما نوهّ بذلك إلى ترجمته لكتب أخرى، أفضل مما وقع عليه بلغات أخرى. وفي المدخل: «إنه لا شك في أن كل معرفتنا تبدأ من التجربة، لأنه بماذا يمكن أن نُنّبه قدرتنا على المعرفة إلى القيام بعملها إن لم يتم هذا عن طريق موضوعات تؤثر في حواسنا وتؤدي بنفسها من ناحية إلى توليد تمثلات، كما تحرك، من ناحية أخرى، فاعلية الفهم عندنا إلى المقارنة بين هذه التمثلات وربطها معاً أو فصلها عن بعضها، وبذلك تحول المادة الخام إلى انطباعات حسية وإلى معرفة بالموضوعات يُطلق عليها اسم التجربة؛ هكذا يمكن القول إنه ما من معرفة فينا تقدم زمنياً على التجربة، وإن «كل معارفنا» تبدأ معها. (....) يجب أن يوجد بالضرورة علم كهذا يكمل الجزء الأول من نظرية العناصر الترانسندنتالية، بالضاد مع النظرية التي تحتوي على مبادئ الفكرة المحضة المسماة «المنطق الترانسندنتالية». إن ما هو مقصود هو أن ثمة معارف معينة يبلغ بها الأمر أن تتخطى حقل جميع التجارب الممكنة، وتلجأ إلى مفاهيم تعجز التجربة أينما كان على تقديم موضوع مُطابق بها، وهي توحي بأنها توسع نطاق أحكامنا إلى ما وراء كافة حدود التجربة. وفي هذه المعارف التي تُجاوز العالم الحسي إلى حيث لا نستطيع التجربة أن تُقدم لا توجيهاً ولا تصحيحاً، تقع البحوث التي يحرص عقلنا على متابعتها ونعتبر أنها، في ما يتعلق بالأهمية، أهم بكثير. وفيما يتعلق بالهدف النهائي منها، أسمى بكثير من كل ما يمكن أن يتعلمه الفهم في مجال الظاهرات، بحيث لا نتوانى عن بذل كل ما في طاقتنا، حتى ولو تعرضنا لحظر الوقوع في الخطأ، لمواصلة هذه البحوث المهمة والتصدي لأي داع من دواعي الشك أو الاحتقار واللامبالاة التي يمكن أن تصرفنا عنها، هذه المهام التي على العقل المحض نفسه إلا يتحاذاها هي وجود القدر وحرية الإرادة وخلود النفس، أما المعلم الذي مراده الأخير موجّه مبدئياً، بكل ما له من أدوات، نحو حلّ هذه الواجبات، فيسمى ميتافيزيقيا، والطريقة التي يسير عليها في بداية الأمر دوغمائية، أي إنه يأخذ على عاتقه إنجاز هذه المهمة الكبيرة من دون فحص سابق لمدى قدرة العقل أو عدم قدرته على النهوض بها. إن عدداً قليلاً من القضايا الأساسية التي يعترضها علماء الهندسة هي بالتأكيد تحليلية فعلاً وتقوم على أساس مبدأ عدم التناقض، غير أنها كذلك لا تستخدم، بوصفها مبادئ على الإطلاق، ومن الأمثلة عليها A - A أي الكل مساوٍ لنفسه أو A+6) > A ) أي الكل أكبر من أي جزء فيه، ومع ذلك، حتى هذه القضايا نفسها، وإن كانت تستمد صدقها من المفاهيم البسيطة، لا يُسمح بها في الرياضيات إلا أنه من الممكن عرضها في العيان، ما يجعلنا نعتقد عادة أن محمول هذه الأحكام اليقينية موجود بالفعل في مفهومنا وأن الحكم تبعاً لهذا حكم تحليلي، فمرجعه ببساطة هو لُبْس التعبير، إننا نجد أنفسنا في الحقيقة ملزمين من الناحية الفكرية بإضافة محمول معين إلى مفهوم معطى، وهذه بالضرورة «الملزمة» متعلقة فعلاً بالمفاهيم، لكن السؤال ليس: ما الذي ينبغي علينا أن نضيفه بالفكر إلى المفهوم المعطى، إنما هو: ما الذي تفكر فيه واقعياً، حتى ولو كان هذا بطريقة غامضة، وهنا يتضح أن المحمول يتعلق بتلك المفاهيم على نحو ضروري حقاً، ولكن ليس باعتباره مفكراً في المفهوم نفسه، بل بواسطة عبانٍ تلزم إضافته إلى المفهوم. أما فيما يتعلق بالسؤال عما إذا كان العقل نفسه في هذه الأفعال التي بها يُسن قوانين، ليس معنياً بدوره بتأثيرات من جانب آخر، هذا ما يسمى بقصد دوافع حسية حرية، وما هو بالنظر إلى أسباب فاعلة أعلى وأبعد هو لا يمكنه أن يكون بدوره طبيعة، هذا ما عناه الفيلسوف في العملي، حيث لا نسأل العقل أولاً وفقط إلا أن يأمر بالسلوك، إذاً نحن نعرف الحرية العملية بالتجربة بصفتها أحد الأسباب الطبيعية، يعني سببية للعقل في تعيين الإرادة. أما بالنسبة إلى أولئك الذين يتبعون منهجاً علمياً، فيمكنهم أن يختاروا إما المنهج الدوغمائي أو الريبي، أي إرضاء العقل البشري كلياً في ما شعل دائماً رغبته في المعرفة، ولكن إلى حد الآن بلا طائل.
مشاركة :