ذو الرمة الشاعر السينمائي

  • 7/6/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

ذو الرمة شاعر عبقرية اللغة والمكان والصورة.. لم تشهد الجزيرة ولا الشعر العربي كله شاعراً وصف الصحراء ومكوناتها وصفاً متناهياً، وصفاً عميقاً، دقيقاً، لا يمكن أن ترصده بهذه الدقة إلا شاعرية فذّة ونادرة سواه.. إنه أعظم مصور سينمائي صور حركة الكون الصحراوي بأشجاره وأحجاره ومائه وسرابه وموجوداته المتحركة، ونجومه وليله ونسيمه وأصوات كائناته. فما قصائده إلا أفلاماً حيّة لمشاهد الصحراء.. وأعتقد بل أجزم أن هذا الشاعر الفذ العملاق نال حظاً كبيراً من النسيان والتجاهل، وبالذات من نقاد الأدب.. ومن يعنون بالإبداع الأدبي في عصرنا الحديث، صحيح أنه نال حظاً وافراً من التقدير من علماء اللغة، وأذهل كثيراً من الشعراء كالمتنبي، وأبي العلاء، وأبي تمام وغيرهم، وكذلك بعض الشعراء المحدثين مثل السياب الذي سمى ابنه باسمه: غيلان.. كما أن بعض المستشرقين اهتموا به مثل: شارل بلا، وهنري هيس.. وكان الرشيد يحفظ شعره، وكذلك إبراهيم الموصلي، صاحب الأصوات الغنائية المشهورة. ولكنه بشكل عام لاقى إهمالاً وجحوداً من نقاد الشعر المتقدمين والمتحدثين في تسليط الضوء عليه وعلى شعره.. والسبب أن النقاد الأقدمين يعتنون كثيراً بمن غلبت عليهم الشهرة أمثال جرير، والفرزدق، والأخطل.. بسبب قرب هؤلاء من الخلفاء والوجهاء، وبسبب النعرات والعصبيات في أشعارهم .. وبسبب المديح والهجاء الذي ظل يتداوله الناس في أدبياتهم.. وبسبب عناية الأقدمين بهؤلاء ذهب المتأخرون من النقاد مذهبهم، فلم يلتفتوا إلى عظمة الفن والإبداع التصويري عند هذا الشاعر الكبير، ولو كان ذو الرمة شاعراً في أمة أخرى، لنال من الاهتمام، والحظ الأوفر والاهتمام الأكبر، لو كان هذا العبقري شاعراً أوربياً لوجدنا تماثيله تملأ الساحات ومفارق الطرق، لقد جعل من الصحراء متحفاً يشبه متحف اللوفر لكنه كان يرسم بالكلمات. إن نقادنا بكل أسف وهم أبناء الجزيرة العربية ويعيشون على التربة التي عاش فوقها هذا الفنان العظيم لم يكترثوا له أو ينظروا إلى أثره.. بل ربما أشمأزوا من ذلك.. وما ذاك إلا جحوداً من البعض الآخر للتعرف على عبقرية هذا الشاعر العملاق بكل المقاييس. إنه شاعر الفن والحداثة الحقة .. إن أولئك المغرمين بإليوت وقصيدة الأرض الخراب، هذه القصيدة المحيرة في تعقيدها حتى بلغتها الأصلية يتفاخرون ويتباهون بحديثهم عن إليوت وهم لا يفهمونه ولا يفهمون شعره، وولعهم به نوع من الاتباع والتقليد ومسايرة الراكضين وراء ما هو غربي. إنهم أشبه بأولئك المراهقين الذين يرقصون ويرددون عبارات أغانٍ غربية وهم لا يفهمونها ببغاوية الافتتان بالتقليد. أعلم أن أدباء وعلماء في عصرنا الحديث معجبون حد الهوس بذي الرمة .. كالروائي الكبير الطيب الصالح، وكالدكتوره سلمى الجيوسي، والمرحوم إحسان عباس، وعبدالله الطيبوشوقي ضيف .. ولكن ذلك يعتبر قليلاً في حق هذا الشاعر الرائع، والذي كان يتألم من سوء حظه أيام حياته، فهو حينما سأل الفرزدق: لماذا لم يرتق به شعره كما ارتقى بالشعراء غيره؟.. رد الفرزدق بقوله: «إنما قصر بك عن الكبار، وقوفك على الأطلال وبكاؤك ميّاً».. بمعنى أن ذا الرمة لم يخدم نفسه إعلامياً بذهابه إلى الخلفاء والوزراء وأسواق الشعر.. وإنما ظل في صحرائه مأخوذاً بمعشوقته «مي» يسير فيأثر ركبها ويبكي منازلها وكان مأخوذاً أيضاً بعوالم الصحراء.. يتبعها بعينه السحرية الراصدة فيصفها وصفاً تصويرياً نادراً يخيل إليك حينما تسمعه أنك تشاهد فيلماً سينمائياً متحركاً.

مشاركة :