مليونان ونصف مليون شخص يعيشون في جزر نائية حول نهر براهمابوترا شمال شرقي الهند، تتهددهم مخاطر الفيضان ونحر المياه. بي بي سي فيوتشر زارت المنطقة على متن قارب طبي لتفقد الوضع هناك. يجيد "موناي دولي" طريقة التعامل مع لدغ الثعابين، هكذا بدأ يخبرنا ونحن نمر بأحد حقول الأرز تحت أشعة شمس حارقة وسماء صافية فوق جزيرة "بيكيلي-1" بولاية آسام شمال شرقي الهند، محذرا من خطورة أفعى كال بيكال تحديدا. فالرجل فارع القامة عريض المنكبين حليق الرأس يؤكد أن السبيل للبرء من لدغتها هو بمضمضة الفم بشراب جعة الأرز الذي يتم تخميره محليا ثم يُعصب الجرح بضمادة تمنع سريان السم، بينما يهم بمص السم بفمه من الجرح مباشرة ومن ثم بصقه عدة مرات. ويتبع ذلك بدهن الفم مجددا بعجينة أعشاب خاصة بينما يبقى الساق أو الذراع معصوبا لست ساعات، بعدها يفك العصابة ليتدفق الدم مجددا للطرف المصاب. إجلاء الآلاف في ولاية بيهار الهندية بسبب الفيضانأسوأ كارثة مائية في تاريخ الهند تهدد 600 مليون مواطن تلك المهارات تعلمها دولي منذ صغره من الصيادين الذين يكسبون رزقهم مما يجود به النهر، وإن أكد أن لدغ الثعابين ليس الخطر الوحيد الذي يواجه سكان تلك البقاع. يذكر دولي كيف أنه وأسرته كانوا بمنأى عن مياه نهر براهمابوترا حتى عام 1987، "حينما جاء الفيضان من التلال"، فأجبرهم على اللجوء إلى الناحية الأخرى من الجزيرة، ومع ذلك لم يتوقف الخطر إذ "يتحسبون النزوح في أي لحظة".مصدر الصورةJules MontagueImage caption رغم ما يبدو عليه نهر براهمابوترا من هدوء، يضخ النهر من المياه ما لا يضاهي ضخامتها نهر آخر باستثناء نهري الأمازون والكونغو أزور جزيرة "بيكيلي-1" على متن عيادة طبية عائمة ينقل أفرادها مساعدات طبية للقاطنين بجزر النهر، وهي في أغلبها مجرد ترسبات من الطمي حملتها المياه من مرتفعات الهمالايا. هنا يعيش 2,5 مليون شخص، أي نحو 8 في المئة من تعداد سكان ولاية آسام. ويعد نهر براهمابوترا شريانا أساسيا يتغلغل في طقوس هؤلاء الناس ومعتقداتهم، فضلا عن إثرائه التربة ومد الحياة لتلك البقاع بعيدا عن صخب المناطق الأخرى دائمة التطور بالولاية. لكن النهر حين يغضب يأتي على الأخضر واليابس، وقد أدت التغيرات المناخية لزيادة الفيضانات ونحر التربة، بل وأصبح خطر الزلازل ليس بعيدا، ما يجعل سكان تلك الجزر، المعروفين باسم "السابوري"، ممن عاشوا هنا قرونا، تحت تهديد فقد منازلهم ومعيشتهم وأرواحهم. اضطررنا لإرجاء انطلاقنا من ضفة النهر عند منطقة "نيماتي غات" بسبب الضباب الذي لف المكان حتى انقشع الجو وبدا النهر بالغ السكون لا يعترض هدوءه إلا عيدان القصب البري تتهادى بهاماتها البيضاء التي تشبه الريش. ينبع نهر براهمابوترا بعيدا عنا مئات الكيلومترات شمالا مع ذوبان ثلوج آنغسي بالتبت، وينساب بعدها عبر جبال الهمالايا مخترقا ولاية أروناتشال براديش ومن ثم ولاية آسام، ثم يتدفق بعنفوان مباعدا بين ضفتيه لاتساع عشرة كيلومترات أحيانا، ثم يمر عبر بنغلادش ليلتقي بنهري الغانج والمِغنا ومن ثم ينهي رحلته بطول 2880 كيلومترا عند مصبه في خليج البنغال. وما أسهل أن ينخدع زائر هذا النهر بسكونه، غير أن البراهمابوترا يضخ من المياه ما لا يضاهي ضخامتها نهر آخر باستثناء الأمازون والكونغو، بخلاف ما يتلقاه واديه من مطر غزير (يربو على 100 بوصة سنويا) فضلا عن الأمطار الموسمية التي تحدث فيضانات وانهيارات طينية يلوذ خلالها السكان بأسطح منازلهم بينما تنفق الماشية وتتلف المزروعات وتكتظ المخيمات باللاجئين. ومنذ عام 1950 شهدت المنطقة إجمالا 25 فيضانا ضخما، وفي عام 1977 فحسب مات أكثر من 11 ألف شخص في الهند وحدها، وفي يوليو/تموز 2012 شرد النهر مليوني شخص أصابتهم فيضانات لاحقة في سبتمبر/أيلول شردت 1,5 مليون شخص آخر. مصدر الصورةGetty ImagesImage caption أطفال لاذوا بسطح كوخ غارق جراء فيضان البراهمابوترا عام 2016 بجنوب كَمرب بالهند ويتحمل السابوري العبء الأكبر من ذلك بسبب هشاشة الجزر التي يعيشون عليها. من هنا جاءت فكرة العيادة العائمة التي اصطحبتها هذا الأسبوع، فبعد أحد الفيضانات تأثر الصحفي المعروف سانجوي هزاريكا بمعاناة شابة حبلى من سكان تلك الجزر قضت نحبها قبل أن تتمكن من الوصول إلى مستشفى بالبر الآخر. وهذا ما حدا به لإطلاق مبادرة "عيادة براهمابوترا العائمة" على متن قارب يتنقل بين الجزر في حالات الطوارئ وغيرها لإمداد السكان باحتياجاتهم الطبية الأساسية، من قبيل التطعيمات، لافتقار السابوري إليها جراء عزلتهم. ويعمل هزاريكا أيضا باحثا وخبير سياسات، فضلا عن كونه مخرج أفلام، وقد بدأ عام 2005 بقارب واحد بمنحة من البنك الدولي بقيمة 20 ألف دولار. واليوم بلغ عدد الزوارق الطبية 15 زورقا تنتشر في 13 مقاطعة من مقاطعات آسام، وتشغل 250 من الموظفين عبر شراكة بين القطاعين العام والخاص تلبي احتياجات 350 ألف شخص سنويا. وفي القرية التي يسكنها سكان قبيلة الميشينغ بجزيرة بيكيلي-1 حيث الأكواخ قائمة على أعمدة بارتفاع خمسة أقدام على الأقل عن الأرض، يستعين الناس بألواح من الخيزران لتوفير أفضل حماية من الفيضانات، بينما ترعى الخنازير أسفل الأكواخ وعلى مقربة توجد مضخة صدئة ودلاء من الماء الراكد بينما علقت الشباك قرب الأبواب بجوار براميل السمك المجفف.مصدر الصورةJules MontagueImage caption اليوم يجوب 15 زورقا طبيا النهر لإمداد شعب السابوري بالضروريات الطبية يستقبل السكان قدوم القارب الطبي بالخروج من الأكواخ برفقة أطفالهم الحفاة وقد علاهم الغبار، بينهم كاجال ذات الأشهر الأربعة وقد حملتها أمها. ويلحظ أحد العاملين جرحا متورما بذراع الرضيعة الصغيرة فيشير إلى الأم بالتوجه إلى خيمة نصبت لاستقبال المرضى. يلاحظ الأطباء تيكشيري بيغو التي تقول إنها في السبعين من عمرها وقد تحدب ظهرها منذ أصيبت بسكتة دماغية وهي في العشرينيات. وتقول إنها ظلت شبه ميتة قبل أن تستعيد بعض الحركة إلا ذراعها الأيمن الذي أصيب بالشلل، وقد لجأت للسحر بالاستعانة بالفلفل الحار وزيت الخردل والتعاويذ والابتهالات. ورغم عدم قدرتها تحريك يدها، لا تزال تيكشيري تزاول العمل في الحقول. ورغم حظر التداوي بالسحر، ما زال السكان الأصليون يلجئون للعلاجات التقليدية كتدليك الجروح ببراعم الخيزران ومضغ فاكهة الأشجار لعلاج الدسنتريا، والتداوي بأوراقها للسعال، والجذور والأعشاب لعلاج لدغ الثعابين والدرن. أما الخيمة الطبية فتصرف الأدوية الحديثة لعلاج الجرب والملاريا وأدواء البطن والأمعاء، وعلاج ضغط الدم المرتفع، وداء السكري، وغيرها من العلل. كما يصاب سكان القرى بالدودة الشريطية التي تنتقل إليهم من لحم الخنزير الذي لا يطهى جيدا، والبعض يتلقى التطعيمات ووسائل تنظيم الأسرة، وهناك ممرضة لرعاية الحوامل والأطفال حديثي الولادة، فضلا عن أخذ عينات تحليل فقر الدم والملاريا والإصابة بالزهري. وحين تغيب الشمس يعود المعالجون إلى القارب حيث يتناولون العدس الهندي ودجاج الكاري، قبل أن يخلدوا للنوم مستترين من البعوض بشباك خاصة بينما يتهادى القارب بأمواج النهر الخافتة. يعتمد ملاح القارب على خبرته بالنهر مستعينا بخارطة طبعت قبل عام تظهر عليها ثلاث جزر باللون الأصفر، ولكن الخارطة غير دقيقة، فإحدى الجزر قد اختفت بفعل نحر المياه قبل أشهر ولم يعد لها وجود في الواقع، وقبلا هجرها سكانها قاصدين اليابسة. مصدر الصورةGetty ImagesImage caption العمال يهيلون أكياس الرمل حماية لضفة البراهمابوترا من النحر عند غواهاتي وفي عام 1950 وقعت كارثة زلزال هائل تزامن مع عيد استقلال الهند، بلغت شدته 8,6 درجة بمقياس ريختر، أسفر عن مصرع ألف شخص، وحول مسار النهر من حينه، إذ حملت مياهه نحو 45 مليار طن من الطمي باتجاه المصب ما جعله أكثر ضحالة، إذ ارتفع قاع النهر منذ الزلزال نحو عشرة أمتار وتحول مجراه من مجرى واحد إلى قنوات متشعبة تنحر ضفافها. وما بين عامي 1954 و2008 نحرت المياه بالمنطقة نحو 427 ألف هكتار إجمالا، أي نحو 4 في المئة من مساحة سهول آسام، ومنذ الزلزال، أتى النحر على ما يربو على 2500 قرية و18 بلدة ومواقع ثقافية لا تعد ولا تحصى، ناهيك عما أتلفه من زراعات الشاي، ما أضر بنصف مليون نسمة من السكان. أما الفترة بين 2005 و2010 فقد شهدت على قصرها نحر 880 قرية وقرابة 37 ألف مسكن وبناء، منها المدرسة الوحيدة بالجزيرة، مسقط رأس دولي، التي تهاوت في الماء قبلا هذا العام. وثمة أخطار أخرى ينطوي عليها بناء سدود قد تحول مسار النهر مجددا، ناهيك عن ارتفاع درجات الحرارة جراء تلوث الهواء، ما يزيد ذوبان ثلوج الهمالايا وهضبة التبت مؤديا بدورة لمزيد من الفيضانات، حتى أن المسؤولين بالولاية يتوقعون زيادة الفيضان بمقدار الربع، والجفاف بمقدار ثلاثة أرباع فضلا عن مزيد من النحر وانهيارات التربة. وتنعكس تلك التغيرات ضررا على البيئة أيضا، بما فيها من مستنقعات وغابات مدارية مطيرة وغابات الخيزران وزراعات الشاي التي تنمو كلها بفضل بيئة حوض النهر الخصبة. خرتيت من نوع وحيد القرن مصدر الصورةGetty ImagesImage caption وحيد القرن يجوز في مياه الفيضان بحديقة كازيرانغا الوطنية في يوليو/تموز 2017 وتضم محميتان تقعان في ولاية آسام حيوانات نادرة، منها الخرتيت (أو وحيد القرن)، والنمور والأفيال والفهود وجاموس الماء، وغزلان المستنقعات، وقرود اللانغور الذهبية، وقد نفق ما لا يقل عن 346 حيوانا بمحمية كازيرانغا في فيضانات 2017، منها 15 خرتيتا، وأحد نمور البنغال الملكية، فضلا عن أربعة أفيال. كما يخشى على الدرفيل النهري النادر من الانقراض جراء التلوث والوقوع في شباك الصيادين فضلا عن السدود واستهدافه لاستخلاص الزيت منه. ولا يوجد من تلك الدرافيل النهرية في الهند بأسرها إلا 1200 درفيل، وكان درفيل نهر يانغتسي قد انقرض عام 2006 جراء النشاط البشري الجائر. وتضم تلك الجزر النهرية مجموعات قبلية منها الديوري والبورو والرابا واللالونغ، فوادي البراهمابوترا تسكنه أكثر من 220 مجموعة عرقية تتحدث ما يربو على 45 لغة لها عادات وتقاليد ومعتقدات شتى. ويسعى الإنسان لكف نحر النهر عبر تعزيز ضفافه بشتى الطرق، وبعضها يضر أكثر مما يفيد إذا ضيق مجرى النهر فزاد سرعة جريانه، أو حمى منطقة من الماء لتلحق ضررا أشد بمنطقة أخرى. لقد سمعت عن قصة يرويها أفراد قبيلة الميشينغ عن فتاة أغرقها أهلها، ألبسوها السواد وشدوا عصا خشبيا إلى ظهرها وفرشتين إلى يديها، فكان أن عادت كأحد درافيل النهر بذات اللون والزعانف، ومن ثم بات الناس آسفين على درفيل النهر كابنتهم الفقيدة، وباتوا يوقرونه ويسعون لصونه مهما تكلف الأمر. وبينما نلمح أحد الدرافيل يقفز من ماء النهر إلى الهواء بجوار القارب تحضرني قصة الفتاة الغارقة بانتظار من ينقذها. من هنا ننتقل صوب جزيرة وقرية أخرى من قرى النهر، ليس في جعبتنا ما يرشدنا سوى خبرة ملاح القارب. يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future ----------------------------------------------------- يمكنكم استلام إشعارات بأهم الموضوعات بعد تحميل أحدث نسخة من تطبيق بي بي سي عربي على هاتفكم المحمول.
مشاركة :