نشرت مكتبة الإسكندرية، في إطار الدور الذي تضطلع به في توثيق التراث اللغوي، «معجم التحفة الوفائية في العامية المصرية» لمؤلفه وفا أفندي محمد، ومن تحقيق الباحث هشام عبدالعزيز. وهو من معاجم اللغة الذي يمكن وصفه باطمئنان بالموسوعة الثقافية؛ إذ يتناول 523 مادة أو مدخلاً معجمياً، مرتبة ألفبائيّاً وفقاً لاجتهاد المؤلف، وهو ترتيب مضطرب صوّبه المحقق في الكشافات. تحتوي كل مادة على معنى اللفظ وسياقاته، إضافة إلى الأمثال الشعبية والكلمات المرتبطة بكل مدخل، سواء أكانت مرتبطة باللفظ أو بالدلالة، وقد انتهت المواد عند حرف الشين، حيث لم يكتمل تأليف المعجم لوفاة مؤلفه. ويشار إلى أن النسخة الخطية التي اعتمد عليها المحقق لم تكن قد نشرت، فهي مجرد مسوّدة المؤلف التي لم يكن قد نسخها أو راجعها حتى. ويشير المحقق إلى أنه يمكن إجمال منهج المؤلف في نقاط عدة، وهي أن المعجم يبدأ من الهمزة وينتهي عند الشين، ومواده تم ترتيبها ألفبائيّاً حسب نطقها، ولكن هذا الترتيب اضطرب في بعض الأماكن فلم يكن متسقاً، فضلاً عن أن المؤلف لم يلتزم فيه بتجريد اللفظ إلى صيغة الماضي، فقد أورد مواد على صيغة الماضي، وأخرى بالمضارع، وأحياناً بصيغة الاسم. ولفت إلى أنه لم ترد في المعجم مواد في حرف الهمزة على صيغة الماضي، إلا بعض الأفعال والصفات التي استدركها المؤلف بعد حرف الباء لأنه كان قد نسيها، وأخيراً اهتم المؤلف في رصده لدلالة اللفظ ودورانها في كلام العامة بذكر أكبر قدر ممكن من الأمثال والتعبيرات الشعبية والأقوال التي ترد فيها اللفظة، بالإضافة إلى ذكر أكبر قدر ممكن من العادات والمعتقدات الشعبية التي تتصل بالمدخل. وأوردَ المؤلف 114 مثلاً، و3200 من التعبيرات والأقوال، كما شرح باستفاضة 101 عادة ومعتقدا شعبيا، ما جعل المعجم، على رغم قلة عدد مواده، كنزاً ثقافيّاً كاشفاً عن جانب من الجوانب المهمة والخفية للمجتمع المصري في القرن التاسع عشر. وينسب إلى المؤلف قوله: إن هذا المعجم هو «المرحلة الأخيرة حتى الآن في رحلتي مع العاميات، فقد طالعتُ نسخة المخطوط في قسم المخطوطات في دار الكتب (المصرية) وحصلتُ على نسخة خطية منه، ثم شغلتني عنه شواغل الحياة... وبعد سنوات ليست قليلة عُدْتُ إلى المخطوط». وتميز تحقيق المعجم بحيوية رصينة برزت في ضبط النص بالحركات الضابطة لنطق الألفاظ العامية، وهو ما لم تكن لدى المحقق مندوحة من اعتماده، فاضطر إلى ضبط الألفاظ والأمثال والأقوال وغيرها ليس في متن المعجم فحسب، بل وفي الهامش وفي الكشافات كذلك. ثم قام بتخريج الآيات والأحاديث والأشعار والأعلام التي وردت في النص، لتكتمل الفائدة. كما قام المحقق بالاعتماد على معاجم اللغة ومجموعة من كتب الرجال الأساسية، كما لم يكن هناك بُد من عمل مجموعة من الكشافات الضابطة للمعجم، حيث جاءت وفق ضوابط عدة، أهمها وضع المواد أو المداخل اللغوية وفق ترتيب معجمي منضبط يتجاوز الاضطراب الذي وقع فيه مؤلف المخطوط. ووردت في المخطوط في الجزء الأول مجموعة رسوم توضيحية رسمها المؤلف بيده، لمجموعة من الآنية وأدوات الزراعة في القرن التاسع عشر، قام المحقق بسحبها بجهاز «سكانر»، وتوضيبها من دون المساس بطبيعتها أو بحدودها كما رسمها المؤلف، وأعطى كل شكل رقماً، وربط هذا الرقم بمكانه في المتن، وأورد هذه الأشكال في نهاية المعجم. ويعتبر المؤلف وفا أفندي محمد القوني (1849م - 1899م)، من رجال الدولة المصرية في الفترة التي تلت الثورة العرابية أثناء حكم الخديوي توفيق، كما أنه تولى أمانة «الكتبخانة» الخديوية، في أواخر القرن التاسع عشر، وتولى أمانة دار الكتب المصرية، كما أنه كان محرر جريدة «الكوكب المصري» التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، إضافة إلى أنه أحد تلامذة المستشرق الألماني كارل فولرس أحد أهم الباحثين الألمان في العامية المصرية. ومن أشهر مؤلفات وفا أفندي: «التحفة الوفائية في اللغة العامية»، و «الرد المبين على جهلة المتصوفين»، و «البرهان الساطع على وجود الصانع». ويُعدّ عبدالعزيز أحد الباحثين المتميزين في تحقيق التراث الشعبي، خصوصاً تراث العامية المصرية، وصدر له حتى الآن 12 مؤلفاً في هذا السياق، من أبرزها تحقيقه لمعجم «القول المقتضب في ما وافق لغة أهل مصر من لغة العرب»، و«ألف ليلة وليلة بالعامية المصرية». إضافة إلى «فولكلور النيل»، و «صحف مصادَرَة في مصر حتى 1952»، و«أساطير المدينة المقدسة»، و «موسوعة ثورة يناير» (الجزء الأول)، وغيرها. كما يعكف هشام عبدالعزيز منذ سنوات على تدشين معجم للعامية العربية محاولاً رصد التباينات التي تكتنز بها الألفاظ العامية في كل قطر عربي أو إقليم عربي، اعتماداً على مجموعة من المخطوطات العربية التي تهتم بالعاميات بخاصة مخطوطات القرنين التاسع عشر والعشرين الميلاديين.
مشاركة :