يعد معجم "التحفة الوفائية في العامية المصرية" لمؤلفه وفا أفندي محمد القوني (1849- 1899)، والذي قام تحقيقه د.هشام عبدالعزيز موسوعة ثقافية في المجتمع المصري في حقبة تاريخية مهمة، وهي نهاية القرن التاسع عشر، حيث تم تأليف المعجم منذ حوالي مائة وعشرين عاماً، ورصد كلمات الناس آنذاك والكثير من ألفاظ العوام وأساليب كلامهم وعاداتهم وأمثالهم المألوفة على ألسنتهم، وكان ذلك لأهل القاهرة والوجه البحري، مضيفاً أنه على الرغم من المكانة العلمية للمؤلف ومن أهمية المعجم وثرائه فإنه أنه لم ينشر من قبل. المعجم الصادر عن مكتبة الإسكندرية عبارة عن كلمات عامية مصرية مشروحة باللغة العربية الفصحى، حيث مزج المؤلف بين العامية كمداخل وأمثلة وأمثال، والفصحى في شرحه وإثرائه لمواد المعجم بالآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية أو الأشعار أو الأقوال أو غيرها. ويتناول المعجم خمسمائة وثلاث وعشرين مادة أو مدخلاً معجميًّا، مرتبة ألفبائيًّا وفقًا لاجتهاد المؤلف، كما يتناول المؤلف في كلِّ مادة معنى اللفظ وسياقاته مورِدًا أمثلة وأمثالاً، ويورد كذلك الكلمات المرتبطة بكل مدخل، سواء مرتبطة باللفظ أو بالدلالة وذلك بقدر ما أمكن له، وقد انتهت المواد عند حرف الشين؛ حيث لم يكتمل تأليف المعجم لوفاة مؤلفه. وقام د.عبد العزيز بالتحقيق العلمي المنضبط للمعجم، فبجانب إعماله لمبادئ التحقيق وقواعده أضاف إليه العديد من الكشافات التي تثريه؛ حيث أضاف خمسة وثلاثين كشافًا متنوعًا؛ للآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأشعار والأمثال والحكم والتعبيرات الشعبية وغيرها. وأشار عبدالعزيز إلى أن منهج المؤلف في معجمه يمكن في إجماله عدة نقاط وهي؛ أن المعجم يبدأ من حرف الهمزة وينتهي عند آخر حرف الشين. ولم يكمل المؤلف معجمه لوفاته، بالإضافة أنه يتكون من 523 مادة رتبها ترتيبًا ألفبائيًّا حسب نطقها على ألسنة العامة، ولكن هذا الترتيب اضطرب في بعض الأماكن فلم يكن متسقًا، فضلاً عن أن المؤلف لم يلتزم في ترتيب مواد معجمه على تجريد اللفظ إلى الماضي، فقد أورد مواد على صيغة الماضي، وأخرى بالمضارع، وأحيانًا أسماء. ولفت إلى أنه لم ترد في المعجم مواد في حرف الهمزة على صيغة الماضي إلا بعض الأفعال والصفات التي استدركها المؤلف بعد حرف الباء من أنه كان قد نسيها، وأخيراً اهتم المؤلف في رصده لدلالة اللفظ ودورانها في كلام العامة، بذكر أكبر قدر ممكن من الأمثال والتعبيرات الشعبية والأقوال التي ترد فيها اللفظة، بالإضافة إلى ذكر أكبر قدر ممكن من العادات والمعتقدات الشعبية التي تتصل باللفظة موضوع المادة، كما أن المؤلف أورد في مواد معجمه 114 مثلاً، و3200 من التعبيرات والأقوال، كما شرح باستفاضة 101 عادة ومعتقد شعبي، وهو ما جعل المعجم، رغم قلة عدد مواده كنزًا ثقافيًّا كاشفًا عن جانب من الجوانب المهمة والخفية للمجتمع المصري في القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين. ورصد د.عبدالعزيز بناءً على ما قدمه أهم ملامح منهج التحقيق في عدة عناصر وهي؛ أولاً: نسخ النص، مع مراجعة مقدمة المؤلف المطبوعة على المصادر التي نقل منها نقوله الطويلة، وثانيًا: قام المؤلف بضبط نصه بالحركات الضابطة لنطق الألفاظ العامية، وهو ما تكن لديه مندوحة من اعتماده، بل فاضطر إلى ضبط الألفاظ والأمثال والأقوال وغيرها ليس في متن المعجم فحسب، بل وفي الهامش وفي الكشافات كذلك، وثالثاً: قام بتخريج الآيات والأحاديث والأشعار والأعلام التي وردت في النص، لتكتمل الفائدة. وقام د.عبدالعزيز بالاعتماد على معاجم اللغة ومجموعة من كتب الرجال الأساسية، مثل: لسان العرب لابن منظور والقاموس المحيط للفيروز آبادي، والمعجم الوسيط، وكتاب الأعلام للزركلي وغيرها، ولم يكن أثبت الرجوع إليها بتفصيل إلا عندما تكون هناك ضرورة لذلك كأن يكون هناك اختلاف، أو أن المعلومة التي يبحث عنها لا توجد إلا في مصدر وحيد، وخامسًا: لم يكن هناك بُدٌّ من عمل مجموعة من الكشافات الضابطة للمعجم، حيث جاءت الكشافات وفق عدة ضوابط. وأخيرا وردت بالمخطوط في الجزء الأول مجموعة رسوم توضيحية رسمها المؤلف بيده، لمجموعة من الآنية وأدوات الزراعة، وقام المحقق بسحبها بجهاز "الاسكانر"، وتوضيبها دون المساس بطبيعتها ولا بحدودها كما رسمها المؤلف، وأعطى كل شكل رقمًا وربط هذا الرقم بمكانه في المتن، وقد أوردت هذه الأشكال في نهاية المعجم. ولفت إلى أن المعارف الميدانية التي طرحها المؤلف في معجمه تنتمي في جلها إلى معجم القاهرة والوجه البحري، ونادرا ما كان يطرح لفظا من معجم جنوب مصر، ويظهر ذلك جليا من الأماكن التي ذكرها الرجل في ثنايا كتابه، فلم يذكر مكانا واحدا من جنوب مصر، اللهم إلا ذكره كلمة الصعيد "المكان وليس سكانه" مرة، وذكره للفيوم مرة في تقديمه للمعجم، بخلاف ذلك ذكر القاهرة عشر مرات، وذكرها بلفظ المحروسة ثلاث مرات، وبلفظ مصر القاهرة مرة، هذا بخلاف المرات الكثيرة التي ذكر فيها القاهرة بلفظ "مصر" على عادة أهل مصر تسمية العاصمة باسم القطر كله. أما بقية الأماكن التي ذكرت في ثنايا المعجم فقد توزعت كالتالي: إبيار (تقديم المعجم) ـ باب زويلة (515) ـ باب النصر (259) ـ البرلس (85) ـ جامع المؤيد (515) ـ الحطابة (250) ـ الزقازيق (34) ـ سوق الزلط (127) ـ سوق الشماعين (515) ـ الشرقية (34) ـ طوخ (188) ـ الغربية (250 ـ 269) ـ مليح (188) ـ منوف (225) ـ الوجه البحري (130). يذكر أن المؤلف وفا أفندي محمد القوني يعتبر من رجال الدولة المصرية في الفترة التي تلت الثورة العرابية أثناء حكم الخديوي توفيق، وهو ما يكشفه ما ذكره في المادة 259 من المعجم ووصفه للخديوي توفيق بأنه "الجناب الخديوي توفيق باشا الأفخم، أيده الله"، كما أنه تولى أمانة "الكتبخانة" الخديوية، في أواخر القرن التاسع عشر، وتولى أمانة دار الكتب المصرية، كما أنه كان محرر جريدة "الكوكب المصري" التي كانت تصدر قبل الثورة العرابية، ومن أشهر مؤلفاته "التحفة الوفائية في اللغة العامية"، و"الرد المبين على جهلة المتصوفين"، و"البرهان الساطع على وجود الصانع". مثال من المعجم: أَبَّ يقولون: أَبَّ الشيء يأب، فهو آبب، يعني طفا على وجه الماء، همزته تبدل بقاف، وبحر "G"، كما سبق بيانه، ففيها الاستعمالات الثلاثة. ويسمون الماء: ميَّه، والميَّه. ويقولون: "أَبَّ على وش الميًّه" ويقولون: "رغيف آببْ" يعني مفشفش، ومن معناها: عيش آببْ، والعيش ـ بعين بين الفتح والكسر ـ وهو الخبز. ومن أمثالهم: "فلان ما يطمرش فيه عيش"، يعني أنه ينكر الجميل ويقابل الإحسان بالإساءة. وكلمة يطمر هي محرفة عن يثمر، وإذا فعل أحدهم معروفا، قال الفاعل "إنشا الَّلا يطمر"، يحذره من نكران الجميل. وكلمة " الَّلا" يعني بها: الله.
مشاركة :