تشهد ليبيا حالة من عدم الاستقرار والفوضى، على غرار أحداث ٢٠١١، وما أعقبها من تداعيات أثرت فى سيادة الدولة الوطنية وأركانها، علاوة على تنامى جرائم الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، وتزايد العمليات الإرهابية لزعزعة الاستقرار الإقليمى والدولي، خاصة على طول الحدود الليبية الجنوبية والغربية، لا سيما فى المناطق الواقعة على الحدود مع تونس والنيجر وتشاد والسودان.كما برهن التقرير المرسل إلى مجلس الأمن من لجنة الخبراء من الأمم المتحدة، عن تنامى عمليات الاتجار بالبشر فى ليبيا، وجاء قرار «مجلس الأمن» بفرض عقوبات دولية على ستة أشخاص يترأسون شبكات للاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين فى ليبيا، وهو ما اقترحته هولندا، فى خطوة غير مسبوقة فى تاريخ الأمم المتحدة، وقد تأخر هذا القرار بسبب طلب موسكو إجراء مزيد من التدقيق، إلا أنه جاء للتصدى للأزمة التى تمثل تهديدًا مباشرًا للأمن الإقليمى فى منطقة شمال أفريقيا.مسارات عمليات التهريبأشارت تقارير الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى، إلى أن ليبيا أصبحت من أهم دول المعبر أمام مافيا الاتجار بالبشر؛ حيث يتم تهريب الأفارقة إلى السواحل الأوروبية بعد احتجازهم وبيعهم فى «أسواق العبيد»، علاوة على معاناتهم من أعمال السخرة.وهنا لا بد من الإشارة إلى ما تتعرض له النساء والفتيات المهاجرات من انتهاكات ومعاناة، إبان عملية التهريب، التى أصبحت تأخذ منحى آخر بعيدًا عن الاختطاف والاحتجاز، من خلال إقناعهم بأنهم سيحصلون على وظائف ومساعدات، ما يجعل الأمر قانونيا، وذلك وفقًا لوكالة مكافحة الاتجار.ويذكر أن عصابات التهريب تعرض نساء جنوب الصحراء الكبرى للاتجار فى بيوت الدعارة، لا سيما فى جنوب ليبيا، بينما تتعرض النيجيريات لخطر الإكراه على ممارسة البغاء، فى حين يتعرض الإريتريون والسودانيون والصوماليون لخطر التعرض للسخرة.وتنطلق عمليات التهريب للمهاجرين الأفارقة بعد دخولهم ليبيا من مدينة «سبها»، التى تقع على بعد ٦٥٠ كيلومترًا جنوبى العاصمة طرابلس، ثم يتم توزيعهم على ثلاثة اتجاهات، الأول إلى مدينة مصراتة، والثانى إلى الخمس، والثالث نحو صبراتة وزوارة المطلة على شواطئ البحر المتوسط، كما تقع بالقرب من العاصمة «طرابلس»، كما يعد إقليم «فزان» من أكثر الأقاليم شهرة بتهريب المهاجرين والمخدرات والأسلحة، لذا حاولت بعض الجماعات المسلحة فى الداخل الليبى السيطرة على المنافذ الحدودية مما أدى إلى صراع مسلح بين الكفرة وسبها.احتواء الأزمةلم تكن عمليات الاتجار بالبشر جديدة على الساحة الليبية، إلا أنها تزايدت نتيجة انهيار السيادة الوطنية، وعدم التوافق بين القوى الداخلية على تسوية السياسة لعودة الاستقرار إلى الداخل. وعليه فقد تمثلت الجهود التى قامت بها حكومة فايز السراج فى احتواء الأزمة داخليا، من خلال التصدى للأزمة عبر عمليات عسكرية فى ٢٠١٧ لمكافحة عصابات التهريب والجماعات الإرهابية والمهربين، وبخاصة فى منطقة غرب ليبيا، مما أسهم فى انخفاض عدد من المهاجرين، وتحول عمليات التهريب إلى مناطق أخرى بعيدة عن المنطقة الغربية، كما أنشأت الحكومة الليبية جهازًا لمكافحة عمليات التهرب غير النظامية، مسئولًا عن ٢٤ مركزًا للاحتجاز، إلا أنه لم يتمكن من السيطرة عليهم نتيجة أن الجماعات المسلحة كانت أقوى من القوات التابعة للحكومة فى التعاطى مع موجات تدفق المهاجرين غير النظاميين.بجانب عودة نفوذ تنظيم «داعش» للعمل فى وسط وجنوب ليبيا، بالرغم من هزيمته فى مدينة «سرت»، والتواصل مع المهربين لنقل المهاجرين، فمنذ منتصف ٢٠١٥ اختطف التنظيم ما لا يقل عن ٥٤٠ مهاجرًا ولاجئًا وقام باحتجازهم، بما فى ذلك ٦٣ امرأة، كما قام بتجنيد عدد من الأطفال ففى ديسمبر ٢٠١٥، حضر ٨٥ طفلًا دون سن ١٦ عامًا، حفل تخرج لمعسكر تدريبى للتنظيم جنوب مدينة «سرت».أما على المستوى الخارجي، فقد سعت حكومة الوفاق إلى تأمين الحدود الجنوبية، من خلال إبرام عدد من الاتفاقيات مع عدد من الدول الأفريقية مثل: السودان وتشاد والنيجر، بجانب بعض الدول الغربية، مثل: الولايات المتحدة وإيطاليا، التى وقعت على مذكرة تفاهم مع الجانب الليبى للحد من تدفق المهاجرين.فى المقابل، تعهدت روما بتقديم دورات تدريبية لقوات الشرطة الليبية، وتمويل البرامج التنموية فى المناطق المتضررة من مكافحة الهجرة غير النظامية، فضلًا عن تشكيل مراكز إيواء للمهاجرين. كما قام الاتحاد الأوروبى بتوسيع نطاق عملياته التدريبية لخفر السواحل الليبي، مع رفع جاهزية مراكز الاحتجاز الخاصة بالمهاجرين الليبيين.والجدير بالذكر؛ أن إيطاليا تعد من أكثر الدول المتعاونة مع السلطات الليبية، فيما يتعلق بملف الهجرة والاتجار بالبشر؛ حيث أضحت طرابلس نقطة إطلاق للمهاجرين عبر البحر المتوسط نحو أوروبا بصفة عامة وروما بصفة خاصة. لذا فلأول مرة ترفض الموانئ الإيطالية استقبال سفينة المهاجرين فى بداية يونيو٢٠١٨.الجهود المضادةافتقرت الحكومة الليبية إلى سياسات موحدة فى التعامل مع التهديدات الأمنية مثل «الاتجار بالبشر»، ومافيا تهريب المهاجرين غير النظاميين بشكل حاسم وفعال، بسبب عدم تفعيل القانون؛ فلم يحظر القانون الليبى جميع أشكال الاتجار بالبشر، بالرغم من أن قانون العقوبات حظر الاتجار بالنساء لأغراض الدعارة والاستغلال الجنسي، ولكنها لم تتناول العمل القسرى بشكل مباشر.كذلك تراجع النهج الاستباقي؛ حيث تفتقد السلطات الليبية لهياكل وموارد سياسية واقتصادية وأمنية دفاعية تمكنها من حماية ضحايا الاتجار بشكل استباقى، فهى دائمًا فى موقع المفعول به وليس الفاعل، وبخاصة مع المهاجرين من الأطفال والنساء الذين تعرضوا لانتهاكات واستغلال قسري، علاوة على الذين تم تجنيدهم من قبل الجماعات الإرهابية.وتعاملت السلطات الليبية بشكل تعسفى مع المهاجرين، فقد عاقبت الحكومة الضحايا على الأفعال غير القانونية التى تمت فى إطار عمليات التهريب والاتجار بصفتهم مهاجريين غير نظاميين، وعليه فقد تم احتجازهم واعتقالهم، فى مراكز احتجاز رسمية وغير رسمية للاحتجاز لفترات غير محددة من الزمن دون الحصول على مساعدة قانونية، وخلال مدة الاحتجاز لم تتمكن الحكومة من حمايتهم.ويأتى تراجع جهود التوعية كأبرز أسباب الاتجار بالبشر؛ فقد تخاذلت الحكومة فى القيام بدورها التوعوى تجاه ضحايا الهجرة وعمليات التهريب تمثلت فى عدم وجود هيئة تنسيق وطنية مسئولة عن مكافحة الاتجار بالبشر، كما لم تتخذ إجراءات لتقليل الطلب على أعمال الجنس التجاري، أو العمل القسري. أو أى خطوات لمنع تجنيد الأطفال واستخدامهم من قبل الجماعات التابعة للحكومة أو المرتبطة بها، وغيرها من الجماعات المسلحة التى تعمل فى جميع أنحاء ليبيا.الوصول إلى أوروباأصبحت ليبيا بوابة العبور إلى أوروبا، ومقصد المهاجرين من غانا ونيجيريا والسنغال والكاميرون وجامبيا والسودان، بواسطة عصابات التهريب، حيث عبر أكثر من ٦٠٠.٠٠٠ مهاجر البحر المتوسط إلى إيطاليا خلال الأربع سنوات الماضية، علاوة على موت الآلاف.وفى هذا الصدد، ووفقًا للمنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، شهد الثلث الأول من عام ٢٠١٨ موت ما يقرب من ٥٥٩ شخصًا إبان عبورهم البحر، كما دخل ١٨.٥٧٥ مهاجرًا إلى أوروبا، مقارنة بأكثر من ١٠٠٠ حالة وفاة فى نفس الوقت من عام ٢٠١٧، وسط ما يقرب من ٤٤.٠٠٠ مهاجر.وأصبحت حالة الفوضى وعدم الاستقرار فى ليبيا السبب الرئيسى فى ازدهار الاتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، ومن المحتمل أن تظل الأوضاع بهذا السوء، نتيجة عدد من العوامل، يعد أبرزها عدم الوفاق السياسى بين قائد الجيش الوطنى المشير خليفة حفتر، وحكومة الوفاق المعترف بها دوليًا، الأمر الذى سبب حالة من الانقسام الداخلي، بجانب تنامى الولاءات والانتماءات الأولية التى دعمت حالة الفوضى، خاصة بين قبائل الجنوب الليبي، بالإضافة إلى الجهود الدولية الفردية فى التعاطى مع الأزمة بما يتوافق مع مصالحها الوطنية وليس للحد منها، لذا فقد تزايدت عمليات الاتجار، بما يمثل تهديدًا للأمن الإنسانى العالمي.
مشاركة :