خيري منصور كي تصل الثقافة إلى المرسل إليه لا بد أن تكون من خلال نصوص أو أعمال إبداعية، فهي ليست كما وصفها أرنست همنجواي، وجبة من الملح الخالص أو السكر، لهذا انتهى منهج التلقين إلى أن تكون العبارات صمّاء، رغم أنها محفوظة عن ظهر قلب، والوسائل القادرة على إيصال الوعي ليست من طراز واحد، فالكوميديا حين تكون ذات رسالة وليست مجانية وتستهدف الضحك فقط من أرشق الوسائل التي توصل الوعي، بسلاسة وبلا أي افتعال، وثقافة التلقين جرّدت النصوص من إيحاءاتها وغنى دلالاتها وقابليتها للتأويل المعرفي . وقد مرت مرحلة تعليمية في العالم العربي كان التلقين فيها هو الأسلوب الشائع، إلى أن تأثرت المناهج التعليمية بما يسمى وسائل الإيضاح. ومن سلبيات التلقين تنفير القارئ خصوصاً في المراحل الابتدائية من الكتاب، لأنه يحرمه من مشاركة المؤلف ويتوقف عند الاستهلاك. والقراءة، كما تقدّمها الآن أطروحات مُتخصصة، تحفيز على التأمل، فهي تثير من الأسئلة أكثر مما تقدّم من الإجابات. وحين ترد في تقارير التنمية البشرية إحصاءات صادمة عن القراءة في عالمنا العربي، لا نتوقف طويلاً عند السبب الذي يبطل العجب، وهو باختصار التلقين الذي يحوّل التلميذ في مراحله الدراسية الأولى إلى مجرد إسفنجة، وأحياناً إلى ببغاء تردّد الصدى بمعزل عن معناه ودلالاته . وما يذكر بشكل متكرر عن أسباب العزوف عن القراءة، يبقى أقرب إلى التوصيف السطحي، والأهم في هذا السياق هو المسكوت عنه لأسباب لا نفهمها، وحين جرّبت بعض الدول ما يسمّى امتحانات الكتاب المفتوح، كانت تضع بديلاً للتلقين، وتتيح للتلميذ في مختلف مراحل الدراسة أن يختبر قدرته على التخيّل والمقارنات، وأخيراً تأهله لإبداء الرأي.. إن التلقين شكل من أشكال الحجر على العقل!
مشاركة :