لم يكن ليخطر ببال المشككين من رواد بعض المساجد والمؤسسات الخيرية في الجزائر العاصمة ومدن مجاورة لها، أنهم سيتعرضون لصدمة قوية هزت قناعاتهم الدينية، وبثت في نفوسهم الشك والريبة من هكذا أفعال خير. فبيوت العبادة التي يرتادونها شيدت بعائدات الكوكايين وأموال الفساد، وجرأة المافيا لم تعد لها حدود، لأن أمثال “الجزار” مستعدون للذهاب بالبلاد وبالشعب إلى الجحيم إذا اقتضت مصلحتهم ذلك. ولم يكن أي أحد في الجزائر يشك في أن ذلك الشاب الوديع الذي يشيّد المساجد ويمول الأعمال الخيرية، هو بارون مخدرات ورجل فساد وواحد من رجالات المافيا التي عاثت في البلاد فسادا، فقد كان يوهم الناس بالاستقامة والتدين ويخفي الشر المستطير، ويلعب بسلامة عقول الأجيال إن لم يتسبب في هلاك بعضهم. “الجزار” لقب يطلق على كمال شيخي البوشي الذي اعتلى شاشات التلفزيونات وتصدر الصحف المحلية والأجنبية، وعرفه الناس كواحد من نماذج الطبقة الثرية في البلاد التي أفرزتها المرحلة الأخيرة، التي انطلقت من لا شيء ووجدت نفسها بقدرة قادر مصنفة في خانة النخبة المالية، فلا مسار مهنيا ولا تكوينيا لها ولا حتى إرثا عاد إليها، إلا البعض من الجرأة والشخصية الحربائية، والعلاقات المشبوهة والقليل من الحظ. كل ما في الأمر أن العائلة التي نزحت في مطلع التسعينات إلى العاصمة، خلال موجة النزوح الداخلي الذي عرفته الجزائر تحت تأثير العشرية الحمراء والهروب إلى المناطق الآمنة، استمرت في حرفتها بتأجير محل لبيع اللحوم كما كانت في مسقط رأسها ببلدة الأخضرية، جنوبي العاصمة. إلا أن طموح ابنها كمال كان يكبر ويكبر من أجل جمع الثروة وصناعة اسم ولو بالأساليب غير المشروعة. العمل الخيري للتمويه الصور المتداولة للبوشي على شبكات التواصل الاجتماعي برفقة عدد من وزراء الحكومة في نشاط رسمي تشكل وجها آخر من أوجه التحالف المريب بين المال والسياسة وتسويق أوهام الخدمة العموميةالصور المتداولة للبوشي على شبكات التواصل الاجتماعي برفقة عدد من وزراء الحكومة في نشاط رسمي تشكل وجها آخر من أوجه التحالف المريب بين المال والسياسة وتسويق أوهام الخدمة العمومية استطاع الشاب الأربعيني في وقت قياسي أن يحقق كل ما يريد. محيطاً نفسه بشبكة من الأسماء والشخصيات النافذة في السلطة. فالتحقيقات الأولية لقضية الكوكايين أثبتت أن الرجل مسنود من جهات قوية في مختلف مؤسسات الدولة، وأن أقارب وأبناء مسؤولين كبار في الحكومة والجيش والقضاء والإدارة ضالعون في الفضيحة. وقد أماطت قضية شحنة الكوكايين المحجوزة منتصف شهر رمضان الماضي في ميناء وهران، اللثام عن حلقة جديدة من مسلسل الفساد المالي والإداري والسياسي المستشري في البلاد. ولولا أن الأمن الإسباني بادر إلى كشف خيوط القضية، بعد أن رست الباخرة القادمة من البرازيل بميناء فالنسيا، وهي محملة بكمية من الكوكايين “701 كيلوغرام” معبأة بإحكام في حمولة اللحوم القادمة باسم شركة الاستيراد المملوكة للرجل، لتم لملمة الأمر وتقييد القضية ضد مجهول، لا سيما وأن العصابة اتخذت جميع الاحتياطات بما فيها رمي الشحنة في البحر حال وجود أي خطر، وتزويدها بشرائح “جي.بي.أس″ من أجل العودة إليها. كشف الملف عن الوجه الآخر لإدارة الثروات المشبوهة في البلاد، وامتداد الفساد إلى مفاصل الدولة. فالشاب الذي تلقى تعليما تقنيا ولم يدرس في الجامعة، استطاع بحيلته توريط وتوثيق ضلوع شركائه الهامين في مختلف أشكال الفساد، ربما لأنه كان يتوقع مثل هذا اليوم الذي تدور عليه فيه الدائرة، وأنه سيأخذ معه الجميع إلى نفس المصير. حملات تطهير فرق التحقيق التابعة لجهازي الدرك والاستعلامات عثرت خلال مداهماتها لمقار الشركة المملوكة له، على تسجيلات بالصوت والصورة وعلى أقراص وشرائح ذاكرة، خزّن فيها كل ما كان يدور بينه وبين المترددين على مكتبه من مسؤولين وأبناء مسؤولين وإعلاميين وشركاء نافذين، وهو ما سهّل عليهم الوصول إلى الأسماء التي كانت تدير الأعمال المشبوهة معه. وتشكّل الصور المتداولة على شبكات التواصل الاجتماعي لكمال البوشي برفقة عدد من وزراء الحكومة في نشاط رسمي رفقة رجال أعمال آخرين بارزين، وجها آخر من أوجه التحالف المريب بين المال والسياسة وتسويق أوهام الخدمة العمومية عبر الثروات المكدسة للعمل الخيري وإعانة الناس على بناء المساجد والمؤسسات الدينية، كما هو الشأن بالنسبة للشاب الذي حاز على أدعية “إطلاق السراح وفك الأسر” من طرف أئمة وشيوخ المساجد التي كان يشيدها خلال صلاة عيد الفطر الماضي، رغم أن الجميع كان تحت صدمة ضلوعه في فضيحة الكوكايين. وبغض النظر عما أفضت إليه التحقيقات بالنسبة لشحنة الكوكايين مع الشبكة الموقوفة بقيادة البوشي، وامتدادها إلى تفاصيل أخرى تتعلق بفساد متصل بمجالات العقار والبناء والإنشاءات وتبييض الأموال والرشوة، فإن المستفيدين من ريع البارون في المساجد والمؤسسات الدينية، يتوجب على المحققين الاستماع إليهم، قياسا بالتعاطف الذي أبداه بعضهم معه رغم صدمة المجتمع. في خطوة للتخلص من تركة وتبعات الفضيحة، بادرت السلطة خلال الأسابيع الأخيرة بحملة تطهير واسعة داخل سلك الأمن والجيش والقضاء والإدارة، ولم تستبعد حتى الحكومة، لإثبات براءتها أمام الرأي العام المحلي والدولي، حيث تمت تنحية العديد من الضباط السامين في المؤسستين الأمنية والعسكرية، على غرار مدير الأمن الجنرال عبدالغني هامل، فضلا عن توقيف عديد القضاة ووكلاء للجمهورية ومسؤولين في الإدارة. فرق التحقيق التابعة لجهازي الدرك والاستعلامات تقول إنها عثرت خلال مداهماتها لمقار الشركة المملوكة للبوشي على تسجيلات بالصوت والصورة، فيها كل ما كان يدور بينه وبين المترددين على مكتبه من مسؤولينفرق التحقيق التابعة لجهازي الدرك والاستعلامات تقول إنها عثرت خلال مداهماتها لمقار الشركة المملوكة للبوشي على تسجيلات بالصوت والصورة، فيها كل ما كان يدور بينه وبين المترددين على مكتبه من مسؤولين وأبانت التسريبات على أن المال لعب لعبته في سلم القيم الاجتماعية والأخلاقية حتى داخل مؤسسات سيادية، فالرجل الذي حاز منذ سنوات على حصرية صفقة تموين وحدات الجيش باللحوم، صار صاحب عقارات ضخمة في أكبر وأثرى أحياء العاصمة، واستفاد بالتواطؤ مع جهات عديدة من أفضلية غير شرعية في الكثير من المشروعات حتى ولو ألحقت الضرر بالناس، وأنه كان الآمر الناهي في العديد من المستويات الرسمية، بما فيها ترقية وإقالة مسؤولين في الدولة، نظرا لمتانة علاقاته في أعلى هرم السلطة. فضيحة شحنة الكوكايين تعيد سيناريو فضيحة مجمع الخليفة خلال مطلع الألفية، لمّا تمكن الشاب الأربعيني حينها عبدالمؤمن خليفة، من صناعة إمبراطورية مالية تتشكل من بنوك وشركة طيران ونقل ومياه في ظرف قياسي، بفضل التواطؤ والتسهيلات التي تلقاها حينذاك من مسؤولين كبار في الدولة، قبل أن يتم الزج به في سجن الحراش بالعاصمة لمدة عشر سنوات، بعد استقدامه من بريطانيا التي لجأ إليها. الفارق بينهما أن خليفة، حاول توظيف تلفزيونه الخاص في لندن، لعرقلة استمرار بوتفليقة في السلطة، وسعى إلى إضفاء تصفية الحسابات السياسية على تصفية مجتمعه، بينما الثاني لم يدل إلى حد الآن بأي تصريح، عن أنه كان من الداعمين بالمال للحملة الانتخابية للرئيس بوتفليقة في انتخابات 2014، من أجل حجب ممارساته غير المشروعة. كما كان على صلة بكبار المسؤولين في الحكومة والأمن والجيش والقضاء. زلزال يضرب النظام وأمام التعتيم المضروب على الملف، يُجهل إلى حد الآن المستويات التي وصل إليها التحقيق والتفاصيل الجديدة، باستثناء ما ورد على لسان وزير العدل طيب لوح، الذي توعد بعزم الدولة على الذهاب بعيدا في القضية، وعلى التحقيق مع أي شخص مهما كان نفوذه ومكانته، الأمر الذي فسح المجال للشائعات والتسريبات، مما يثير مخاوف الجزائريين من ترتيب القضية وفق مخرج معين، كما تم ترتيب قضايا فساد سابقة. وذكر المحامي شايب صادق الذي يرافع عن البوشي، بأن “موكله صرح لقاضي التحقيق بكون عملية شراء اللحوم تمت بطريقة قانونية حسب الإجراءات والوثائق الرسمية المعمول بها دوليا، بما يخلي تماما مسؤوليته عن الشحنة الضخمة التي ضبطت في الحاوية التابعة لشركته، وأن كمية الكوكايين المحجوزة، قد تكون تابعة لعصابة أو لوبيات من أميركا اللاتينية أرادوا تمريرها عبر شحنة اللحوم، وأخذوا احتياطاتهم لرميها في عرض البحر بدليل، وجود مصابيح مائية ضبطت في الباخرة”. وذكرت تقارير محلية بأن ضابطا سابقا في الاستخبارات الجزائرية، يقيم حاليا في باريس، أرجع تدخل الجيش لاعتراض هذه الشحنة من الكوكايين بدلاً من الشرطة والجمارك، لكون المعلومات المتصلة بها قد نقلت إلى المخابرات الجزائرية من قبل دولة أوروبية، في إطار التعاون في مكافحة الإرهاب، في إشارة للحكومة الإسبانية التي توقفت الباخرة في أحد موانئها بفالنسيا، وبدرجة أقل فرنسا. إن ما أثار انتباه أجهزة المخابرات الإسبانية والفرنسية، هي طريقة دفع قيمة هذه الكمية من الكوكايين، وتوفر العبوات التي كانت تحوي هذه المادة على نظام تحديد المواقع الذي تنطلق منه إشارة للتعرف على موقعها، وأن هذين العاملين أكثر أهمية من القيمة المالية للشحنة في حد ذاتها. السلطة تواصل ما بدأته خلال الأسابيع الأخيرة بحملة تطهير واسعة داخل سلك الأمن والجيش والقضاء والإدارة، ولم تستبعد حتى الحكومة، لإثبات براءتها أمام الرأي العام المحلي والدوليالسلطة تواصل ما بدأته خلال الأسابيع الأخيرة بحملة تطهير واسعة داخل سلك الأمن والجيش والقضاء والإدارة، ولم تستبعد حتى الحكومة، لإثبات براءتها أمام الرأي العام المحلي والدولي ولفتت المصادر إلى أن مصالح الاستخبارات الأجنبية التي تابعت القضية، توصلت إلى ضبط نفس طريقة عمل الشبكات التي تستخدم المخدرات كوسيلة دفع لشراء الأسلحة، وهي عمليات يمارسها على نطاق واسع الإرهابيون ومهربو المخدرات في أفغانستان، والقوات المسلحة الثورية في كولومبيا. وهذا ما يبرز المخاوف الحقيقية للسلطة من العيون الأجنبية، التي تتابع تطورات ملف الشحنة والعصابة التي تقف وراءها. ما يفرض عليها حتمية التعاطي الجدي مع مجموعة كمال البوشي والضالعين معه في القضية، حيث أبرقت وزارة العدل إنابات قضائية إلى عدد من الدول لاحتمال وجود عناصر أخرى في الملف، لا سيما وأن عائدات الجريمة المنظمة باتت مصدر تمويل المجموعات المتطرفة والإرهاب في العالم. قرابة مع قيادات الإسلاميين تأتي علاقة القرابة العائلية للبوشي، مع القيادي السابق في تنظيم الجماعة الإسلامية المسلحة عمر شيخي، المستفيد من تدابير ميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي أطلقه الرئيس بوتفليقة في 2005، من أجل احتواء الحرب الأهلية في البلاد، لتطرح فرضية العلاقة المالية مع الجماعات المتشددة، خاصة وأن نشاط الرجل في مجال تشييد المساجد واختيار اللجان الدينية التي تتعاون معه غير خاف على الرأي العام الجزائري، وهو ما سيمتد إليه التحقيق المعمق للمصالح المختصة. وشاءت الأقدار أن تكون شحنة الكوكايين فتيلا أشعل فتيل صيف حار وغير عادي في الجزائر، فكما سجلت أرقام قياسية عالمية لدرجة الحرارة هذه الأيام في محافظات ورقلة وأدرار وتمنراست الجنوبية، تسجل الجزائر صيفا ساخنا على الصعيد السياسي، عكس المواسم الماضية حيث كان الجميع ينصرف لقضاء إجازته السنوية والابتعاد عن الضغط والضوضاء، بينما في هذا الموسم فرضت قضية كمال البوشي، على الجميع البقاء في مواقعهم في انتظار أن ينجلي غبار المعركة.
مشاركة :