يستند موقف «الديموقراطيين» الأميركيين، وعلى رأسهم الرئيس باراك أوباما، في التعاطي بيسر ملحوظ مع الملف النووي الإيراني الواقع تحت السلطة المباشرة لمجلس ملالي طهران، إلى خط سياسي طويل الأمد والتأثير، نظمَ فصولَه ومحطاتِه الرئيسة قرارٌ مفصليّ اتخذته إدارة الرئيس الديموقراطي الأسبق جيمي كارتر خلال فترة حكمه، لجهة دعم ثورة الإمام الخميني حين اندلاعها عام 1979. أما المرجعية الإيديولوجية لهذا القرار، الذي رسم مسار العلاقات الأميركية الإيرانية لعقود متوالية، فبُنيت على قاعدة نظرية الحزام الأخضر الإسلامي ((Islamic Green Belt التي صاغ تصوّرها واستراتيجياتها آنذاك مستشار الأمن الوطني في إدارة كارتر، زبيغنيو بريجنسكي، الديموقراطي أيضاً. ومفاد النظرية: أن نشوء أنظمة إسلامية في منطقة الشرق الأوسط، مدعومة أميركياً، سيكون بإمكانها بما لديها من دعم جماهيري قاعدته الإسلام، أن تشكل بدائل حقيقية للنظم الاستبدادية القائمة، وأن تكبح جماح حركات اليسار المناصرة للاتحاد السوفياتي (قبل انحلال عقده). ولإشهار دعمه لنظام الملالي الوليد في إيران قام الرئيس الأسبق كارتر برفع الحظر عن بيع الأسلحة والبضائع لإيران الذي كان سارياً منذ 1978. وللتأكيد على ميوله لنصرة أصحاب العمائم، رفض كارتر منح شاه إيران (الحليف المقرّب لأميركا) تأشيرةَ دخول إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج في نيويورك قبيل وفاته متأثراً بمرضه العضال. موقف كارتر ذاك لم يمنع من تعاظم تجييش طهران الشعبي والرسمي ضد «الشيطان الأكبر»، والذي انتهى إلى واقعة 4 تشرين الثاني (نوفمبر) 1979 في السفارة الأميركية في طهران واتخاذ الديبلوماسيين الأميركيين في حينها رهائن لمدة 444 يوماً. تلك الواقعة أرست حجر الأساس لدراما محاربة «النصارى» في الغرب الأميركي، وذلك في شريط من العنف المتواصل اندلع مترافقاً مع اضطرام الثورة الخمينيّة، ماراً بتفجير مقر مشاة البحرية الأميركية في بيروت عام 1983، بالغاً ذروته العنفيّة في هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الانتحارية عام 2001، وهذه المرة في العقر من الدار الأميركية. العلاقة الملتَبسة بين الولايات المتحدة وإيران ما لبثت تثير علامات الاستفهام، والتعجب أيضاً، على غير صعيد. فحركة المد والجزر بين البلدين «العدويّن» إنما تخضع لبوصلة المصالح الاستراتيجية التي تتفاوت بين تقارب وتباعد في غير منطقة من العالم. فأولوياتهما المشتركة كانت قد جمعتهما خلال الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001 حين سقط نظام طالبان الأصولي هناك، وشعرت إيران بالبراء من وجع التشنّج السلفي في خاصرتها اليمنى، بينما استأصل الأميركيون نظام صدام حسين الشوفيني عن خاصرتها اليسرى، فكانت العافية السياسية الإيرانية في بدر اكتمالها. تلك العافية كانت قاعدة صلبة لطهران بهدف التمدد في غير بلد عربي والتواجد الميلشياوي والعسكري فيه، كما حدث ويحدث في لبنان وسورية والعراق واليمن. ولم يأتِ من فراغ تطاول مندوب مدينة طهران في البرلمان الإيراني، علي رضا زاكاني، المقرّب من المرشد الإيراني علي خامنئي، حين قال: «إن أربع عواصم عربية أصبحت اليوم بيد إيران، وتابعة للثورة الإيرانية الإسلامية عقب سقوط صنعاء والتحاقها بالثورة الإيرانية»! من نافل القول إن لإيران طموحها النوويّ معزّزاً بهاجسها الإمبراطوري التوسعي، وهي ما فتئت تسعى لامتلاك أوراق رابحة على الساحة الدولية تقايض بواسطتها مضيّها الموتور في هذين المشروعين. ومنذ الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان (أبريل) 2003 لعبت إيران دور محامي الشيطان المزدوج المهام في المسألة العراقية، وسعت بانتظام لأن تتخذ من نفوذها الشيعي هناك ورقة ضاغطة لمساومة الأميركيين وشراء صمتهم خلال سعيها لامتلاك السلاح النووي، ومدّ حبال نفوذها الإقليمي، والتمادي في استعراض عنجهيتها على مسمع ومرأى من دول الجوار وعلى رأسها دول الخليج «الفارسي» كما يطيب لإيران «الفارسية» أن تدّعي تسميته. هكذا، يقف المراقب للشأن الإيراني حائراً في قراءة الأوراق الإيرانية ــ الأميركية، التي بدأ الحبر يتداخل فيها مختلطاً بين الأحمر والأزرق والأخضر، بما يتعثر فكّ مفرداته، وتضيع منه شيفرة اللغة لكشف طلاسم العلاقة التي زجّت الطرفين، الأميركي والإيراني، في زواج متعة ممتدّ. أما «الجمهوريون» الأميركيون الذين غدوا يسيطرون على مجلسي الشيوخ والنواب لأول مرة منذ خمسين عاماً، فهم يسبحون بسرعة قياسية عكس التيار الديموقراطي، وينتظرون انعقاد جلستهم الأولى، إثر انتصارهم الساحق في الانتخابات النصفية قبل شهر ونيف، ليقولوا قولتهم في تجديد العقوبات على إيران، وربما نقض خواتم المحادثات الأممية في الملف الإيراني برمّتها. * كاتبة سورية
مشاركة :