سأدخل مباشرة إلى الموضوع وأقول، قد أكون بصدد استعمال آليات الخداع في الإقناع في الحالات التالية: * حين أذكر في كلامي بعض الأسماء غير المعروفة، أو بعض الأرقام غير المتداولة، والتي يصعب التحقق منها في الحال، أو أني أذكرها بنحو يجعل التحقّق من صحتها أمرا بالغ الصعوبة والتعقيد ولو بعد حين، لكني أبني عليها في الحال مواقف قطعيّة ونتائج نهائية. * حين أذكر أسماء مبنية للمجهول على طريقة (اكتشفت أحد المختبرات العلميّة… اعترف أحد عقلائهم… أخبرني أحد التقاة… إلخ)، وأتوقّع التسليم بالمعطى طالما لا يمكن تفنيده في الحال، بل لا يقف الأمر عند هذا الحد وإنما أحاول أن أستنتج من تلك المرويات خلاصات حاسمة. * حين أنطلق من فرضية أولى، وأعترف ابتداء بأنّ الأمر مجرّد فرضية قابلة للاختبار، لكني بدل اختبارها سرعان ما أستنتج منها فرضية ثانية ثم ثالثة، وهكذا دواليك، إلى أن أدّعي لنفسي إنشاء نظرية قائمة الأركان. * حين أنتقي بعض المعطيات القليلة وغير المكتملة، وأبني عليها أحكاما نهائية على طريقة (ما يصدق جزؤه يصدق كله)، وهي مبالغة لا تصدق دائما. * حين يعرض عليّ أحدهم عشرات الحجج، ثم أنتقي أضعفها، وبعد أن أطعن فيها كيفما اتفق، أستنتج بطلان الأطروحة بأكملها على طريقة (ما بطل بعضه بطل كله)، وهي مغالطة منطقية بكل تأكيد. اليوم في معركة البوركيني (المايوه الإسلامي) ضد البيكيني (المايوه الحداثي)، يصطف جمهور الإسلام السياسي خلف البوركيني، رغم أنه لم يرد في أي قاموس من قواميس السلف أو الخلف * حين أجعل الفشل في البناء ذريعة لادعاء فشل فكرة البناء نفسها، على منوال من يجعل فشلنا في بناء الحداثة دليلا على فشل الحداثة، وفشلنا في بناء الدولة الوطنية دليلا على فشل الدولة الوطنية، وفشلنا في بناء المعرفة العلمية دليلا على فشل العلم المعاصر، وفشلنا في الاندماج في الحضارة المعاصرة دليلا على فشل الحضارة المعاصرة، فأنا بهذا المعنى أمارس التضليل. لماذا؟ لأن الأصل أن الفشل في البناء ليس دليلا على فشل فكرة البناء، كما أن الفشل في الإبداع ليس دليلا على إفلاس الإبداع، والفشل في الإصلاح ليس دليلا على استحالة الإصلاح، والفشل في الحب ليس دليلا على عدم إمكانية الحب. بلغة بليغة نقول: فشل المحاولة لا يعني الاستحالة. * حين أستحضر نظرية المؤامرة لأجل تفسير كل شيء، وأي شيء، ولا شيء، ثم أجعل من غياب الدّليل على الدعوى دليلا على قوة المؤامرة. * حين أبحث عن أي قاسم مشترك قد يكون أو لا يكون بين معطيين لا تربط بينهما غير المصادفة، وأستنتج في الحال أن من المحال أن يكون ذلك مصادفة! أو أطرح السؤال: لماذا في هذا الوقت بالذات؟ وهو سؤال ملغوم في كل الأحوال. * حين أردّ على من ينتقد سلوكا مستشريا عندنا بحجّة أنّ غيرنا قد يفعل مثل ذلك ولو في بعض الأحيان، ومن ثمة لا داعي لتركيز النقد على ذواتنا، أو حين أردّ على من ينتقد عنف الذات هنا الآن بالسؤال، ولماذا لا تنتقد عنف الآخر هناك أو هنالك أو في الماضي القريب، أو حتى في الماضي البعيد؟ * حين أصف الآيات القرآنية التي لا تعجبني بأنها منسوخة، وأصف الأحاديث التي لا ترضيني بأنها ضعيفة أو موضوعة، وأجعل التراث الذي لا يروق لي ضمن الإسرائيليات. * حين أراهن على إثارة الحزن والغيرة والغضب والنصرة والعصبية، كبديل عن الاستدلال، وأكثر من البسملة والحمدلة والحسبلة والحوقلة أثناء الكلام، ولا أكون واضحا في التعبير عن آرائي، إن كانت لي آراء بالأساس. * حين أمثل حزبا من أحزاب الإسلام السياسي فأستعمل مفاهيم الحداثة والعقلانية والتمدن والحرية وحقوق الإنسان في حواراتي الإعلامية، لا سيما مع الصحافة الغربية، ثم لا يكون لتلك المفاهيم أي أثر يُذكر في القوانين الداخلية للحزب الذي أمثله. والحال أن من آفات السياسيين والإعلاميين اهتمامهم بالتصريحات أكثر من اهتمامهم بالوثائق. آليات الخداع في الإقناع حجة من لا حجة له، منهج الأصوليات والشموليات في سعيها إلى السيطرة، وهي التي ترى لأجل ذلك أن الغاية تبرر الوسيلة، بل وترى الإنسان نفسه مجرد وسيلة لخدمة غايات كبرى تتجاوزه، سواء أكانت غايات مادية أم غيبية. لذلك تعتقد الأصوليات والشموليات أن دور المثقف ليس إعمال العقل طالما الحقيقة مطلقة وقابلة للتلقين، وإنما دوره مقتصر على الدعاية والإقناع. وهو ما يقابل الدعوة والتبليغ في الأيديولوجية الدينية. في واقع الحال تبقى معظم الخدائع المؤسسة للإسلام السياسي امتدادا لثقافة الحيل الفقهية. بحيث يكفي التلاعب ببعض الألفاظ والدلالات حتى يصبح الحرام حلالا، والحلال حراما. تكفي بعض الشطحات التأويلية حتى يصبح المحظور مباحا، والمباح محظورا. يكفي اليوم على سبيل المثال تحميل بعض مقتضيات الحداثة بعض الأسماء “الشرعية” حتى نحصل على حداثة حلال زلال على منوال “البنك الإسلامي”، و“المايوه الشرعي”، و“السندويتش الحلال”، و“الرقص الحلال”، و“زمزم كولا”، وهلم جرا أو جهلا. تلك المصطلحات لا تنتمي إلى الشريعة ولا إلى الحداثة، إنها مجرّد مخلوقات مشوّهة لا تعمر طويلا، لأنها ثمرة حمل غير صحي بين فصائل غير قابلة للتزاوج “أسلمة الحداثة” مثلا، تعني على وجه التحديد إمكانية التحايل على جوانب الحداثة التي لا نستطيع مقاومتها، والتي في نفس الوقت لا تقبل بها رقابتنا الذاتية، وذلك بإجراء بعض التمويهات الشكلية، على طريقة أقنعة الرغبات المحظورة في صور الأحلام وفق آليات التحليل النفسي. الأمثلة كثيرة من قبيل اعتبار الضريبة مجرد باب من أبواب الزكاة، والانتخابات مجرد باب من أبواب الشورى، والعمل السياسي مجرد باب من أبواب الدعوة. وكذلك من قبيل إمكانية أن تسبح المرأة وفق مستلزمات السباحة الحديثة، لكن بعد أن نُجري على لباس السباحة تعديلا في مستوى الصورة ولو بنحو كاريكاتوري، فيُستبدل البيكيني بالبوركيني. اليوم في معركة البوركيني (المايوه الإسلامي) ضد البيكيني (المايوه الحداثي)، يصطف جمهور الإسلام السياسي خلف البوركيني، رغم أنه لم يرد في أي قاموس من قواميس السلف أو الخلف. لقد انطلت الحيلة على الذات. وكذلك الحال بخصوص إمكانية شراء السيارة بقرض بالفائدة وفق مستلزمات المعاملات الحديثة، لكن بعد أن نُجري تعديلا طفيفا في مستوى شكل الاستقبال، ثم نسمي الفائدة بالمرابحة، أو وفق التعبير الذي أمسى رائجا بينهم، “الكراء المفضي إلى تملك السيارة”. “وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ” البقرة 9. اليوم في معركة المرابحة (البنك الإسلامي) ضد الفائدة (البنك الحداثي) يصطف جمهور الإسلام السياسي خلف المرابحة، رغم أنها ليست ضمن قواميس القروض سواء في منظومة الشريعة أو منظومة الحداثة. لقد انطلت الحيلة على الذات. وكذلك القول عن العديد من المصطلحات ذات الطابع التمويهي من قبيل فقه الفلسفة، حقوق الإنسان في الإسلام، إلخ. في آخر المطاف تلك المصطلحات لا تنتمي إلى الشريعة ولا إلى الحداثة، إنها مجرّد مخلوقات مشوّهة لا تعمر طويلا، لأنها ثمرة حمل غير صحي بين فصائل غير قابلة للتزاوج، أو على اعتبار أن المهمة تُركت في الأساس لطب العطارين، وما شابه ذلك.
مشاركة :