يمثل برنامج التوازن المالي في المملكة حتى الآن، نموذجا يحتذى به في التخطيط والتنفيذ المتميز، ويشهد بذلك الواقع الاقتصادي، الذي استطاعت المملكة من خلال هذا البرنامج، تخطي عقبة أسعار النفط، كما تخطت مشكلة الاعتماد على النفط في تمويل المالية العامة، وقدمت أدلة اقتصادية على قدرات الاقتصاد السعودي على الاستدامة. النجاح الذي تحقق في برنامج التوازن المالي حتى الآن، يضع كل البرامج الأخرى في مسار مطمئن؛ إذ إن انضباط المالية العامة فيه استقرار يسمح لنا بالمضي قدما في الإصلاحات الواسعة، وتحقيق مبادرات "رؤية المملكة 2030"، لكن نجاح برنامج التوازن المالي حتى الآن، لا يقوم على مجرد المبادرات، بل على بناء منظومة حوكمة من مكاتب ومراكز ووحدات تحقق قيمة مضافة للبرنامج وللاقتصاد كله. ولإيضاح هذه المسألة، فإن تحقيق التوازن المالي يعتمد على ثلاثة أمور معا، الأول هو التوازن بين الإيرادات من جهة والمصروفات من جهة أخرى، والثاني هو التوازن في النفقات، والثالث هو التوازن في جانب الإيرادات، والتوازن لا يعني - بالضرورة - التعادل أو التساوي، بل يعني ما يحقق للاقتصاد السعودي أفضل وضع مالي منشود، ويحقق الاستدامة الاقتصادية. ففي جانب التوازن العام بين الإيرادات والمصروفات، فإن المستهدف هو أن تكون لدى الدولة إيرادات تغطي كل نفقاتها دون عجز، وإذا حققت الميزانية وفرا، فهذا أفضل، لكن يجب ألا يكون هذا الوفر على حساب التنمية الاقتصادية وتوازن الاقتصاد كله. ولهذا، فإن وجود مكتب إدارة الدين العام مهم كنقطة للحوكمة الجيدة في هذا التوازن، فهو من جانب يدرس العجز ومكوناته وآليات تمويله من خلال الدين. وفي جانب المصروفات، فقد تمت إعادة تبويب الميزانية العامة للدولة، وضبط الإنفاق التشغيلي، ورفع الإنفاق الرأسمالي على المشاريع ذات الجدوى الاقتصادية، وهنا تقوم وزارة المالية كنقطة حوكمة بإعلان الميزانية كل ربع لتوفير معلومات كافية بهذا الشأن، تساعد متخذ القرار والجهات الرقابية على تنفيذ مهامها المعتادة في ضبط الإنفاق. وفي جانب الإيرادات، يقوم برنامج التوازن المالي على رفع الإيرادات غير النفطية، مع المحافظة على مستويات جيدة من الإيرادات النفطية، ولهذا تم إنشاء وحدة تنمية الإيرادات غير النفطية، التي نُقِلت بعد ذلك إلى وزارة المالية، وتم خلال الأسبوع الماضي تحويلها إلى مركز لتنمية الإيرادات غير النفطية كنقطة حوكمة جيدة، والسبب في هذا أن المملكة حققت قفزة كبيرة في الإيرادات غير النفطية، وهو ما أسهم بشكل كبير في إعادة الاستقرار إلى الاقتصاد بسرعة أكبر من المتوقع، وعودة الاقتصاد إلى النمو. وما يشهد بذلك، أن وزارة المالية نشرت تقريرها عن الربع الأول من العام المالي، الذي شهد نمو الإيرادات غير النفطية في الربع الأول 63 في المائة، وهي قفزة هائلة تحققت من خلال أدوات كثيرة تم إدراجها في المالية العامة، من بينها الضرائب على السلع المنتقاة، وتعديل عدد من الرسوم والخدمات، إضافة إلى تطبيق ضريبة القيمة المضافة. ولهذا، فإن وجود مركز لتنمية الإيرادات غير النفطية يأتي في موعده؛ نظرا للنجاح الذي تحقق حتى الآن. وهكذا، تظهر بكل وضوح قواعد الحوكمة، التي تضبط الميزانية العامة وبرنامج التوازن المالي، والانتقال من مرحلة إلى مرحلة بسلاسة وهدوء، بعد أن تحقق المرحلة التي تسبقها كل أهدافها. وفي ظل هذه الجهود، فإنه من المتوقع أن يسهم مركز تنمية الإيرادات في تحفيز أدوات جديدة لزيادة الإيرادات غير النفطية، وأن يتابع إنجازات البرامج الأخرى ذات العلاقة، مثل برنامج التخصيص.
مشاركة :