بول أوستر يكتب ملحمة روائية عن أميركا

  • 7/11/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بيروت – أنديرا مطر | عن دار «أكت سود» صدرت الترجمة الفرنسية لرواية الكاتب الأميركي بول أوستر بعنوان «4 3 2 1»، وهي لوحة جدارية حقيقية، حيث يمزج الكاتب أربعة مصائر لشخصية واحدة هو أرشي فيرغسون اليهودي المولود في عام 1947. وذلك بآلية وأسلوب سرديين غير مسبوقين. كثافة متجددة يفتت أوستر روايته بأربعة سيناريوهات محتملة لشخصيته الروائية تقود في المحصلة لتشكيل بورتريه شديد العمق يتيح للقارئ النفاذ منه إلى صورة أشمل، إلى تاريخ الولايات المتحدة، خصوصاً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. يمكن القول إن هذه الرواية استثنائية بكل المقاييس، فرغم صفحاتها التي تجاوزت الألف، فلم تنزلق إلى التسطيح، بل حافظت على كثافتها إلى حد أن كل صفحة منها تحمل نفساً جديداً وتفتح على خيالات واسعة. يقول الروائي: «لم أكن مرتبكاً أبداً. ولا بد من القول إني لم أضع خطة لذلك، كانت مرتجلة تماماً، من الكلمة الأولى حتى النهاية، كنت أدخل يومياً إلى غرفة الكتابة من دون أدنى فكرة عما سأكتب». العزلة المنزلية وتابع: «ظننت أن هذا الكتاب سيستغرق بين 6 أو 7 سنوات إلا أنني أنجزته في نصف هذه المدة. عملت سبعة أيام في الأسبوع بمعدل ثماني ساعات في اليوم. لم أفعل شيئاً آخر خلال هذا الوقت: لا سفر، ولا قراءات، ولا مقابلات. ونادراً ما كنا نخرج أنا وزوجتي من المنزل». أمر آخر يذكره أوستر قد يكون أحد عوامل استغراقه في هذه الرواية «بدأت بالرواية في عمر الــ66، وهو العمر الذي توفي فيه والدي بسبب نوبة قلبية. ما إن تجاوزت تلك السن حتى بدأت أعيش في عالم شديد البطء. اليوم تآلفت مع الحياة، ولكن في وقت سابق كانت فكرة الموت المفاجئ تضج في رأسي». الرحلة تبدأ هذه الرواية بإخبارنا عن جدّ فيرغسون (بطل الرواية) الذي «انطلق من مينسك (روسيا) سيراً على الأقدام وبجيبه مئة روبل مخيطة في بطانة سترته. وصل إلى جزيرة إيليس في اليوم الأول من القرن العشرين بعد عبور المحيط الأطلسي على متن «إمبراطورة الصين». تستهل القصة بدعابة: اسم الجد هو ريزنيكوف، ولكن مواطناً روسياً مثله من أصل يهودي اقترح عليه تغيير اسمه إلى روكفلر: «مع اسم كهذا، سيكون كل شيء على ما يرام»، ولكن الجد سيفشل في الاختبار الأول، إذ عندما يسأله ضابط الهجرة عن اسمه، فسيجيب باللغة «اليشيدية» (لغة يهود أوروبا): «لقد نسيت»، فيفهم الضابط بحسب الإيقاع السمعي أنه يدعى «فيرغسون». وصول الجد إلى الولايات المتحدة ولقاء أهله وولادة حفيده أرشي فيرغسون في 1947 ستشكّل محاور الفصل الأول، أو المرحلة الأولى من هذه الملحمة الاستثنائية. سرد عبقري سنتعرف إلى آرشي فيرغسون الذي يكبر بين والدين محبين. الوالد يملك متجراً لبيع الأدوات الكهربائية، في حين تعمل أمه مصورة فوتوغرافية. كان ذلك الطفل يود أن يكون لديه إخوة وأخوات، ولكنه سيظل ابناً وحيداً. بدءاً من تخريب متجر الأب على يد شقيقيه وبالتواطؤ مع شركة التأمين، يرسم بول أوستر سيناريوهات مختلفة سيكون لتداعياتها أثر في توجيه حياة فيرغسون بطريقة مختلفة، وتتفرع الرواية في أربعة اتجاهات. يغوص اوستر عميقا في حيوات بطله المتناسلة، والتي تفتح جميعها على سؤال يحضر في كل صفحة: ماذا كان سيحدث لو كانت الظروف والمصادفات مختلفة؟ يخاتل الروائي الظروف والاحداث، تلك التي تؤثر مباشرة على شخصيته الرئيسية كما على الشخصيات الثانوية. كل «فيرغسون» يعيش في نيوجيرسي مختلفة عن الاخرى ولديه تصور مختلف من العائلة والأصدقاء. عندما تتكشف قصصهم في الفصول المتعاقبة، يصبحون أكثر تميزًا. الأربعة يتمتعون بذكاء حاد، وكلهم كتّاب طامحون. جميعهم يقعون في حب «آمي شنايدرمان» الآسرة، لكن كل علاقة تسير بطريقة مختلفة. واحد من الـ«فيرغسون» يتعرض لحادث سيارة ويفقد بعض أصابعه. أحدهم من المخنثين. واحدهم يموت صديقه فجأة، وآخر يعيش في عليّة في باريس بدلا من ارتياد الجامعة. والد أحدهم يموت أثناء نشوب حريق. سيكون من الواضح أن بعض الأرواح الأربع أقصر من غيرها: فبعد العاصفة في المخيم، يقل عدد الـ«أركي» الأربعة ليصبح ثلاثة، وكلما يتطلع القارئ قدماً، يأخذ عنوان الكتاب معنى أكثر تحديدا. إنسان المصادفات على هذا النحو يتقدم السرد الروائي راسما مصائر أرشي فيرغسون بما يوحي اننا نراقب نحاتا يقوم بتشكيل وجه انسان. يقدم هذا البناء السردي المذهل رؤية بزاوية 360 درجة، رؤية مذهلة ومثيرة في آن معا، كما لو أن استحضار العديد من الاحتمالات الممكنة يدفعنا أكثر باتجاه حقيقة الإنسان. كان من الممكن أن يراكم بول أوستر القصص الواحدة تلو الاخرى وكان من شأن ذلك أن يسهل قراءتها، غير ان هذا الأسلوب في القراءة لا يجدي مع رواية «4 3 2 1». بانوراما لأميركا على خطى الروائيين الأميركيين العظماء يرسم بول أوستر بورتريه لأميركا، رموزه: السيارة، البيسبول، التلفزيون.. ثم يتسلل الى تاريخها: الهجرة في مطالع القرن العشرين، الحرب العالمية الثانية، انتخاب كينيدي واغتياله، ونضال الأميركيين السود من أجل المساواة، تحرير المرأة، والحروب في كوريا وفيتنام. ثابت واحد: الكلمات كل شيء متحرك وغير ثابت، اما الخيال فهو نقطة الربط التي يمكن للقارئ أن يرسو عندها من دون أن تزل قدمه. بول أوستر يحيي أسياده في الأدب كما في السينما: شكسبير، ديكنز، كلايست، دوستويفسكي، أبولينير، جويس، تروفو، والقائمة تطول. بطل روايته يحب القصص، وقبل كل شيء يحب الكتابة. بالنسبة الى فيرغسون كل الطرق تؤدي إلى الكلمات وفي هذا يتراءى لنا بول اوستر نفسه.

مشاركة :