لم يكن بيان الغاضبين الصادر الليلة قبل الماضية من قبل بعض قيادات الهيئة السياسية لحزب نداء تونس، سوى القمة الظاهرة للعيان لجبل من الصراع المتراكم بين الشقوق والمحاور صلب الحزب. ولأن من وظائف القيادات الكبرى للأحزاب، إدارة التوافق حتى يستمر ويتواصل، وإدارة الخلاف حتى لا يستحيل صراعا وتشرذما وانسلاخات، فإن حرب البيانات الندائية مع ما تكتنفه من مضامين التشكيك والتخوين السياسي، تكشف أن النداء في صيغته الحالية عاجز عن إدارة الحوار داخله وعن ضبط الاختلاف في صلبه. لن نجانب الصواب إن اعتبرنا أن بيان الغاضبين من مسلكية القيادة السياسية لحافظ قائد السبسي للحزب، ومن الخطاب الإعلامي لنداء تونس، يعد واحدا من أخطر البيانات السياسية على ما تبقى من هيكل حزبي لنداء تونس، لا فقط لأن البيان صادر من قيادات تأسيسية ومركزية داخل النداء، ولكن وهو الأخطر لأن البيان ينزع الشرعية عن القيادة الحالية ويرجعها إلى الهيئة السياسية. كما يضبط موعدا للمؤتمر القادم ويعين أنس الحطاب ناطقة رسمية جديدة باسم الحزب. لا شك إذن أننا حيال مشهدية انقسامية تضرب النداء عميقا، ولئن كانت حركات التمرد السابقة بقيادة فردية مركزية (محسن مرزوق، رضا بلحاج، سعيد العايدي) فإن الحراك الراهن يحمل سمات الفعل الجمعي، ويتضمن أسماء ثقيلة من حيث الرصيد الرمزي صلب النداء، والأكثر من ذلك أنها تحمل مسار تجديد للحزب انطلاقا من القيادة وليس انتهاء بالدعوة إلى المؤتمر الثاني للنداء. رد شق حافظ قائد السبسي لم يتأخر حيث وصف بيان الهيئة التنفيذية للحزب، الغاضبين بالأقلية الانقلابية ونزع عنهم شرعية التحدث باسم الحزب أو أحقية اتخاذ القرارات ورسم السياسات تحت عنوان نداء تونس، إلا أن البيان في سياق مناكفته السياسية أكد فكرة أن الحزب يمر بأزمة حوار كبرى وبمعضلة انشقاقات مفصلية، وأن الحزب يفتقد لا فقط للشخصية القيادية بعد انتخاب الباجي قائد السبسي لرئاسة البلاد، وإنما تنقصه الشخصية التوافقية القادرة على جمع الفرقاء وجسر هوة التباينات وتقليص فجوة الاختلافات. والحقيقة أن الحزب لم يهدأ منذ الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، فمقر الحزب كان مجال مكاسرة وصراع علني على أكثر من ملف ساخن، وكان على القيادة الجديدة إدارة ثلاثة ملفات كبرى ومشتعلة في آن واحد، الأول إدارة تحالف الضرورة مع الغريم الإسلامي. والثاني إدارة حروب الداخل بين القيادات والشرعيات والمشروعيات. والثالث إدارة دواليب الحكم والحكومة في زمن صعب ومع حليف شرس ومعارضة صلبة ومطلبية اجتماعية عالية. وعلى أنقاض كل ملف، كانت أجنحة سياسية تتشكل وشقوق حزبية تنسلخ من الجسم المثخن، والكل يرفع قميص السبسي الأب، والكل يقدم قرابين الولاء للأب المؤسس، وينظم أبيات القدح في الوريث غير المسيس. ما زاد الطين بلة دخول الحزب مرحلة الشك، حيث مثلت خسارته لمقعد نيابي لصالح المعارض ياسين العياري، وتواضع نتائجه في الانتخابات البلدية مقارنة بالاستحقاقين الرئاسي والبرلماني السابقين، أرضية ارتياب من طريقة إدارة الحزب سيما وأن الانتخابات البرلمانية والرئاسية على الأبواب، ولا مؤشر يدل على أن نداء تونس قادر على أن يسجل ذات الحضور الانتخابي لسنة 2014. جزء من صراع الإخوة الفرقاء في نداء تونس، يعود إلى التباين الشديد حول مصير يوسف الشاهد وحكومته، ولكن الجزء الأكبر راجع إلى صراع حول رئاسة نداء تونس بين مطالب برأس حافظ قائد السبسي فيتغير بذلك الأداء بتغير القيادة، وبين داع إلى استمرار الابن في خلافة أبيه على رأس الحزب حتى وإن كان البون شاسعا على كافة المستويات بين الرجلين، فالقيادة والكاريزما والتجربة لا تورث للأبناء ولا للأحفاد. الحزب الذي فرض التوازن في المشهد السياسي عاجز عن صنع الاستقرار بين أجنحته، والحزب الذي أسقط النهضة من الحكم وألزمها بمقولات التونسة، يفتح لها المجال لتوظيف خراج المكاسرة الندائية رصيدا انتخابيا في الاستحقاقات القادمة. النداء في حاجة إلى توافق داخلي، وفي أمس الحاجة إلى شخصيات اعتبارية تبني هذا التوافق، وتعيد رص الصفوف وتضع خارطة طريق للمؤتمر القادم، ولا نرى غير الباجي قائد السبسي شخصية لنحت هذا المسار قبل أن يذهب الانجراف بكل المكاسب القائمة.
مشاركة :