من شوارع القاهرة إلى شوارع بيروت وعمان واسطنبول تستطيع أن تعرف معنى قيمة أن يكون هناك وطن. تعرف ذلك من عيون الأطفال والأمهات السوريات، وهم يسألون الناس عن صدقة. كم أنت قاسية أيتها الحياة بعد العيش في أسرة ووسط جيران ومصادر الرزق ووطن يحمينا، كل ذلك يصبح هباء، ونصبح بين أمرين إما أن نموت تحت أنقاض منازلنا وأملاكنا أو نفر ولا نملك ما يسترنا غير الهواء الذي نتنفس، فهو الشيء الوحيد الذي نأخذه بإرادتنا من دون أن يطلب منا أحد المقابل. وليت الأمر توقف على ذلك، فلكي ننجو كان لا بد من أن نخوض رحلة أخرى من المعاناة أخطارها لا تختلف عن أخطار البقاء، على احتمال العيش في مكان آخر بعيد من هذا الوطن الذي أصبح جحيماً، وقد تركنا ما نملك وتنقلنا مع المتنقلين لنعيش في مخيمات اللاجئين على الطرف الآخر من الحدود، ومن استطاع دخول عواصم أخرى وكسب تعاطف البعض، يأخذ ثمن وجبات اليوم وهو ما لا يحدث باستمرار، فأصبح وجودنا أكثر صعوبة في ظل عدم وجود مكان يؤوينا، وملاحقة الشرطة أطفالنا الذين بدلاً من أن يكون مكانهم الطبيعي المدارس انتشروا في الشوارع يمدون أيديهم للعابرين، وقد ضل الكثيرون منهم عن أهلهم، فباتوا غرباء في بلاد غريبة يجهلون لغتها. ألم يكن هؤلاء يعيشون قبل ذلك مكرمين وسط أسرهم يذهبون إلى مدارسهم كل صباح؟ فما الجناية التي ارتكبوها ليفقدوا الماضي والحاضر والمستقبل. تقارير الأمم المتحدة تقول إن هناك ما يقرب من 6 ملايين لاجئ سوري، يعيشون ظروفاً كارثية وجريرتهم أنهم عاشوا من قبل تحت نظام استبدادي حوّل مفهوم الوطن على مقاس أسرته وطائفته، في مقابل نظام إقليمي ودولي وجدها فرصة ليغيِّب الشعب السوري، فيما الأطراف كافة يراهن كل منها بالسوريين ليعظِّم مصالحه. كم كان حسني مبارك حكيماً عندما ترك منصبه تحت ضغط الشارع، حتى لا يحدث لمصر مثل الذي نشهده في سورية. وعندما جاء «إخوان» مصر للحكم وبعقليتهم الأحادية ساروا على نهج الأسد في تفصيل مفهوم الوطن على مقاس جماعتهم مع فتح الباب لتدخل الخارج في الشأن المصري. وكم كان الشعب المصري عظيماً حين لفظهم خلال عام واحد، عندما وجد نفسه مهدداً بما يشبه النكبة السورية. وكم كانت المؤسسة العسكرية المصرية من الإدراك والوعي لقيمة ومفهوم الوطن ومحاولتها أن ترجع هذا المفهوم وتخوض حرباً ضد جماعات جاءت لتشعل في المجتمع المصري حرباً أهلية. فكان بالتأكيد ثمناً تم دفعه، سواء من الذين أعميت عنهم الصورة الحقيقية وضُلّلوا أو من أفراد الجيش والشرطة الذين قتلوا في أعمال إرهابية. دماء هؤلاء حفظت مصر من أن تدخل حرباً أهلية، وأن تتلاعب بها القوى الإقليمية وليتشرد أبناؤها لاجئين في ما بقي معافى من دول الجوار، ولتنتهي الشخصية المصرية التي ظلت موجودة على مدار الخمسة آلاف سنة الماضية على رغم كل عوامل التعرية التي لحقت بها من غزوات مختلفة. فالثورة أعادت لنا اكتشاف مفهوم الوطن بأنه لا يمكن أن نهدمه بمؤسساته في سبيل أيديولوجية دينية أو طوباوية. نعم، من بين الأزمات التي أدت إلى انهيار المجتمع السوري والمجتمع الليبي، غياب المؤسسات القوية وغياب العدالة وحكم القانون، وهو الدرس الذي يجب أن نتعلمه في مصر. نعم، نعمل ضد الاستبداد لأنه بطريق غير مباشر قد يؤدي إلى انهيار وطننا في المستقبل، ونعمل لغرس الديموقراطية والقيم الحضارية كافة، وتحقيق ذلك لا يمكن أن يتم إلا في إطار وجود المؤسسات والوطن. أما في حال هدمها فسنلحق بطابور اللاجئين الذي بدأ بالشعب الفلسطيني ومرّ بالعراقيين، وهو الآن يفرغ المجتمع السوري من أبنائه، ما يجعلنا نبكي الآن مأساتهم التي تفوق نكبة الفلسطينيين. فالثورة على عكس ما يرى الكثيرون قد تكون إعادة اكتشاف لحقائق موجودة بيننا لا نستطيع أن نتبينها بسهولة في الوضع الطبيعي، وبالنسبة إلينا نحن في مصر، أظهرت الثورة معنى الوطن وقيمته من جديد. الوطن الذي يجب ألا يكون على مقاس فرد أو عائلة أو جماعة، وإنما هو لكل من يتنفس هواءه ويستظل سماءه.
مشاركة :