قبل الخوض في التجربة السياسية القومية الحديثة للعرب لا بد من التأكيد ان البحث في مثل هكذا مدلولات قرآنية لا يُعطي مؤشراً لتيارات الإسلام السياسي بالاستشهاد بأن ذلك دال على ان الاسلام به نظرية سياسية، فالإشارة القرآنية بشأن عضوية العروبة شيء وتطبيق النظريات السياسية الحديثة وضروراتها شيء آخر, فالإسلام وغيره من الاديان لا توجد بها نظرية سياسية, لكن الاشارة هنا في القرآن للأخذ بالفهم والهوية العربية تأتي من باب فهم الواقع وباب حكم الأخذ بالهوية من المعاملات، وهو لا يُعطي بأي وجه من الاوجه حقاً لرجال الدين في تخليق نظرية سياسية باسم الدين، كما حصل من إقحام للأفكار الدينية في صبغة العمل السياسي في مصر والعراق، وقد دمروا بذلك التجربة الناصرية في مصر, كما دمروا التجربة البعثية، ودمروا بذلك التجربة العراقية الناهضة في ظروف تاريخية سالفة كانت ذات حظوظ مؤاتيه لبناء نهضة الامة. ولو وقفنا مُجدداً على التجربة القومية الناصرية كإطار سياسي يدعو الى وحدة الامة العربية فإننا سنجد انها تجربة جادة إلا انها ليست عميقة فكرياً وايديولوجياً بحسب رؤيتنا، ومع انها لعْبت دوراً كبيراً ومُباركاً في وضع اللبنة الكبرى في التفكير الجمعي العربي بضرورة وحدة المصير, فإننا نرى ان فكر البعث العربي قد فهم الهوية العربية ومكامن قوتها، ومن ذلك أصل مفاهيم الوحدة العربية وضروراتها بشكل ايديولوجي عميق، واستنتج من القران وآياته الكثيرة الدالة على أفضلية العروبة وهويتها كطرح قيمي دقيق ومُنصف حاكم على باقي الامم و بخاتمية القرآن والاسلام نفسه على باقي الرسالات, وقد أكد الفكر البعثي على عضوية تلازم القيمة القرآنية ومصيرها بمصير صدقية القيم العربية والعرب والعكس, وهو الامر الذي استوعبته الصهيونية العالمية جيداً، فشخصت ان البعث بفكره هو العقبة الكأداء والعدو الحقيقي الجادّ في التصدي لمشروعها، وأن ما دونه من ألوية تُرفع في وجه اسرائيل سواء على مستوى الشرق او على مستوى العالم ما هي الا قشور مُتطايرة, ومن ذلك كانت ترى لزاماً تمرير مشروع إسقاطه من على دفة حكم العراق ليكون الطريق مفتوحاً لها لإحداث ما يحصل اليوم من زلازل في العالم العربي ومن متغيرات في كافة قارات العالم. ان الفشل الذي مُنيت به الولايات المتحدة في تحقيق تحوّل عالمي هادئ يمرّ من خلال بوابة بغداد العراق قد حصل، وهو ما يجعل ترامب اليوم يصف غزو العراق بأكبر خطأ وكابوس حصل في عمر الولايات المتحدة السياسي, كما أن عامل الحروب بالوكالة في مناطق الجغرافيا العربية الحاصل اليوم هو ما تنتهجه الصهيونية العالمية لفرض عملية التحول بالعالم نحو النظام العالمي الاحادي المنشود، وان وتيرة ذلك الصراع على اراضي المنطقة العربية الغنية من جغرافيا العالم ستظل قائمة ومتعددة الوكالات حتى يحصل التلاقي والانفراج بين قوى الانتاج العالمي او يحصل التصادم المباشر فيما بينها.. عندها ستحصل حتماً تغيرات جذرية في هذه المنطقة من العالم على كافة المستويات الجغرافية والسياسية والديمغرافية, ونحن شخصياً قد تناولنا هذه المفارقة في مقالات سابقة، وأكدنا ان الولايات المتحدة لن تقبل باقتسام النفوذ الاقتصادي العالمي رغم طبيعة براجماتية السياسة الرأسمالية وتلونها، وذلك راجع الى الكثير من العوامل، منها جهد التراكم الزمني لاكتساب النفوذ والقوة التي حققتها الرأسمالية عبر القارات على مر عقود طوال من السنين, وهي اليوم من الصعب ان تتراجع لاقتسام النفوذ الاقتصادي حول العالم مع قوى ناهضة اخرى, ويبقى الامر والتساؤل مرهونا بالطرف المقابل، وهو الصين ومدى امكانية قبولها بالتراجع عن خططها الاقتصادية ومدى قبولها بمطالب وموازنات الولايات المتحدة ونظرتها الى واقع الاقتصاد العالمي, وواضح حتى اللحظة ان الصين ترفض أي عملية ضغوط امريكية للتراجع عن حظوظها وخططها في توسيع قاعدة نموها الاقتصادي, ومن أكبر الامثلة على ذلك ان الصين جددت اتهامها مؤخراً للولايات المتحدة بكونها تسعى لشنّ أكبر حرب تجارية عبر التاريخ، بل قد شرعت بكين بالردّ على ضرائب ترامب على الصادرات الصينية بفرض ضريبة مُعاكسة على الصادرات الامريكية بقيمة اربعة وثلاثين مليار دولار كإجراء ارتدادي مُعاكس, علماً بأن ترامب أثناء فرضه الحزمة الاولى من الضريبة الجمركية على الصادرات الصينية قد حذّر بكين من مغبة اتخاذ اجراء اقتصادي مُماثل على الصادرات الامريكية، وقد توعدها بحزمة أخرى من الرسوم الجمركية لا تقلّ قيمتها عن أربعمائة وخمسين مليار دولار إن هي تجرأت على مُجاراة بلاده في اتباع ذلك النهج بالنقيض، لكن بكين تجاهلت ترامب وصفعت بتهديداته عرض الحائط, وواقع الاوضاع اليوم يدفع بأنظار المُهتمين والمُراقبين نحو واشنطن، وذلك لاستقراء موقف الرئيس الامريكي وخيارات إدارته في الرد على ذلك التحدّي الصيني المُعلن, ومن ذلك المخاض يتولد التساؤل العالمي المُباشر القائم اليوم، ومفاده: هل بدأت الحرب التجارية العالمية بشكل مباشر بين أكبر قطبين عالميين للإمساك بزمام دورة الانتاج العالمي؟ وهل سيُلقي ذلك الصراع بتداعيات على الاسواق العالمية وعلى مولدات الانتاج العالمي؟ كما يُحذر المُهتمون من حصول تداعيات ركود اقتصادي عالمي، كالذي حصل في ثلاثينيات القرن الماضي نتيجةً للحروب التجارية، وذلك اذا ما استمر الطرفان في الدفع نحو تصلب موقِفيهما, وتبقى الاسئلة العالقة التي يُنتظر الاجابة عنها كامنة حول ما الذي ينتظر الاقتصاد العالمي في المدى المنظور؟ ومن الذي سيكسب الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين عالميين نمواً في حال استمر ذلك الصراع؟
مشاركة :