«قد يسود الظلم بين الناس أجيالًا، إذا نجح الظالم فى التفرقة بينهم، ولكن هذا لا يدوم أبدًا بين أفراد شعب واحد أو قلوب تحب؛ إنها قصة حب وقصة شعب».. كانت هذه الكلمات تمهيدًا استهل به المخرج عز الدين ذو الفقار، فيلمه الأشهر فى تاريخ السينما العربية «رد قلبي» عن قصة الكاتب الكبير يوسف السباعى، والذى يعد توثيقًا لما عاناه بسطاء وفلاحو الأمة المصرية، من بطش وتجبر أمراء وباشوات الأسرة العلوية، التى حكمت مصر قبل ثورة ٢٣ يوليو، إلا أن ذكاء «فارس الرومانسية» ألهمه لأن يتخذ من الحب رسولًا وشاهدًا لتوثيق تلك المعاناة عن قصة واقعية حدثت بالفعل على أرض مصر. «رد قلبي»، الذى تم إنتاجه عام ١٩٥٧، يرصد معاناة قطاع كبير من أبناء المجتمع المصرى تمثل فى «علي» -شكرى سرحان- ابن الريس عبدالواحد الجناينى -حسين رياض- الذى تطلّع بقلبه من نافذة كوخه البسيط إلى قصر الأمير العلوى الذى يعمل به والده، وكان ما تطلع إليه قلبه جوهرة القصر «إنجي» -مريم فخر الدين- قلب نابض بالحياة، قلب لا يعترف بالفوارق بين غنى وفقير، لم تنظر يومًا للثراء الذى تعيشه فى قصر والدها أو للفقر الذى يعيشه «علي» فى منزل والده البسيط، حائلًا بين قلبين محبين غمرتهما مشاعر طاهرة، إلا أن والدها وشقيقها البرنس علاء- أحمد مظهر- كان كغيره من أمراء الأسرة العلوية ينظرون إلى البسطاء والفلاحين من المصريين على أنهم كائنات لا تستحق الحياة لا سيما أن كانوا يعملون لديهم، فكانا لهذا الحب بالمرصاد.بينما كان «على» على النقيض من «إنجي»، فهو دائمًا يرى تلك الفوارق شهادة وفاة حبه الذى يخبئه فى صدره وتفضحه عيناه؛ حيث تبدأ أحداث الفيلم بصوته من المستقبل مستعرضًا ما كان يدور فى نفسه، قائلًا: «تحت سماء صافية واحدة، وعلى أرض طيبة واحدة، عشت وإياها على مدى البصر، ومع ذلك ما نظرت إليها إلا وأحسست بيننا بهوة عميقة من اليأس، فرضتها سدود الفوارق، وحوائل التقاليد، وفى صبيحة يوم جمعة عام ١٩٣٠ كان والدها الأمير يمر برفقة والدى «الباش جنايني» متفقدًا الحدائق والزهور، كان والدى يأمل فى رضاء الأمير عن عمله حتى إذا ما قدمنا إليه أنعم علينا بمنحة، نستطيع بها سداد قسط المدرسة، وكنت وأخى فى انتظار هذا اللقاء».كان «علي» متوجًا بعزة نفسه، يحملها وسامًا على صدره، كما كان يضيق ذرعًا بأن يلاقى الأمير ويقبل يده، على النقيض من أخيه «حسين» -صلاح ذو الفقار- الذى يكبره بعام، الذى لا يجد عضاضة فى أن يعيش الواقع كما هو وينحنى للأمير ليصل إلى مبتغاه، وفى خضم هذه السنوات العصيبات يكبر الشقيقان وينهيان مرحلة التعليم الثانوى تأهلًا للوظيفة الحكومية، إلا أن والدهما الرجل البسيط كان يطمح لأن يرى ولداه فى موضع آخر، حيث الحربية المصرية، والبوليس المصرى، فيتقدم «علي» للمدرسة الحربية، وكذا «حسين» للبوليس، إلا أن الواسطة تقف عقبة فى طريق تحقيق حلم «علي»، فتتدخل «إنجي» لمساعدته بطلب وساطة أحد الأمراء له، غير ناسية تضحيته لأجلها وإنقاذها حينما تعرضت للغرق فى طفولتها، إلا أن ما قامت به آثار حفيظة والدها الذى استنكر ما قامت به، مرددًا على مسامعها أن هؤلاء الـ«حيوانات»، لا يجب التدخل لخدمتهم أو الوساطة لهم.مرت السنوات وتخرج «على وحسين»، وأصبحا ضابطين فى جيش وبوليس مصر، إلا أن الوضع الاجتماعى الجديد لم يرحمهما من نظرة الأمير المتسلطة وابنه المتغطرس، اللذان لم ينسيا أنهما ابنا الجناينى البسيط، وهو ما دفع الأمير لأن يطلب إيداع «عبدالواحد» بمصحة الأمراض العقلية لمجرد طلبه زواج ابنه الضابط بالجيش المصرى من ابنه الأمير، ما دفعها لأن ينتقلا من بيتهما إلى منزل جديد، كانت الأوضاع حينها مستفزة لأبعد الحدود، فالفلاح مصرى والعامل مصرى والجندى فى الجيش مصرى.لكن المالك «باشا»، والمتحكم فى رأس المال أمير، وكان لا بد من وقفة، والتضحية لتغيير الأوضاع، ولإعادة الحقوق إلى أصحابها، فكل الطرق حالت دون التعايش الآمن دون فوارق فجة بين الطبقات، انقسم المجتمع إلى سادة وعبيد، آمر ومطيع، حاكم متمثل فى طبقة الباشوات والأمراء، ومحكوم متمثل فى جموع الشعب المصرى على مختلف أطيافه.عبّر «السباعي» عن ثورة ٢٣ يوليو بأنها المنقذ لكل ما فُقد الأمل فى إنقاذه على أرض الكنانة، أنقذت الكرامة والعزة، أنقذت العراة الحفاة فى الأرض، التى يعملون بها ولا يذوقون خيرها، وانتصرت للقلوب أيضًا، وقضت على الفوارق الطبقية وألغت السيادة لأحد على أهل مصر، إلا القانون الذى يحكم الجميع، فكانت الثورة إيذانًا ببزوغ فجر جديد، بسواعد رجال شرفاء هددوا مستقبلهم «بحركة» لم تكن مضمونة النجاح، إلا أن الشعب الكادح التف من حولهم وأيدهم، لتنطلق مصر من عصر العبودية إلى عصر الحرية، ومن مرحلة الملكية إلى انفتاح الجمهورية، وليبقى «رد قلبي»، واحدًا من أهم وأعظم الأفلام التى قدمت الحب والتضحية من ناحية والتسلط والكراهية من ناحية آخرى، ووثق لفترة كانت هى الأسوأ فى تاريخ مصر الحديث.
مشاركة :