أداء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليمين الدستوري، في التاسع من تموز (يوليو) الجاري، أمام البرلمان الجديد دشن دخول تركيا الرسمي في مرحلة النظام الرئاسي، الذي يؤسس لمرحلة مفصلية جديدة من التاريخ التركي الحديث، تُذكّر في أهميتها بمرحلة التأسيس الأول للجمهورية عام 1923، التي عرفت نظام الحزب الحاكم الواحد، وصولاً إلى عام 1945 الذي أقرت فيه التعددية الحزبية، وأعلن عن انعطافة كبرى دخلت معها تركيا مرحلة النظام البرلماني، الذي بات اليوم بحكم الماضي. وأحدث الانتقال من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي نقاشات وسجالات، كما أحدث انقساماً سياسياً عكسته نتائج الاستفتاء الشعبي في العام الماضي، ثم نتائج الانتخابات المزدوجة الأخيرة، إذ تبين أن عدد المعترضين عليه ليس بسيطاً، لكن بعد أن تمّ الانتقال، بات السؤال يطاول طبيعة هذا النظام الرئاسي الجديد، وماذا سيقدم لتركيا، وكيف يمكنه النهوض بها؟ وفيما تصفه أحزاب المعارضة بنظام أو حكم الرجل الواحد، الديكتاتور، يعتبره مناصروه نظام وحدة الإرادة الشعبية، أي أنه نظام يقوم على إرادة الشعب وليس إرادة الفرد، ويجسد الديموقراطية بركائزها الثلاث: السلطة التنفيذية الممثلة بالرئيس وبالحكومة، والسلطة التشريعية التي ينتخبها الشعب، والسلطة القضائية التي ينتخبها النواب والحكومة معاً، بمعنى أن هناك ثلاث سلطات مستقلة، العلاقة بينها متوازنة. ويذهب بعض أعضاء «حزب العدالة والتنمية»، ومن بينهم إيهان أوغان رئيس منظمة التعاون المدني في تركيا وأحد مهندسي النظام الرئاسي، إلى اعتبار هذا النموذج ديموقراطياً وحقيقياً لن يتسنى فيه لأي وزير الانفراد باتخاذ القرارات، لأن هناك هيئات ومكاتب وطنية تضم أعضاء من مختلف الأحزاب والقوى السياسية تشارك الوزير في اتخاذ القرار، حيث ستشكل تسع لجان، هي: لجنة سياسات الإدارة المحلية، ولجنة السياسات الاجتماعية، ولجنة سياسات الصحة والغذاء، ولجنة سياسات الثقافة والفن، ولجنة سياسات القانون، ولجنة سياسات الأمن والخارجية، ولجنة سياسات الاقتصاد، ولجنة سياسات التربية والتعليم، ولجنة سياسات العلوم والتكنولوجيا والحداثة. كما سيتم تأسيس 4 مكاتب ستعمل مع رئيس الجمهورية مباشرة، هي: مكتب الموارد البشرية، ومكتب الاستثمار، ومكتب التمويل، ومكتب التحول الرقمي، وتهدف إلى إدارة اقتصاد البلاد وتطويره في شكل كبير، إلى جانب تعزيز التحول الرقمي. إضافة إلى ذلك جرى تقليص عدد الوزرات إلى 16، وسيعمل الوزراء مع الهيئات الوطنية بعقلية الشركة التجارية، التي لا يمكن لمديرها اتخاذ أي قرارات من دون الرجوع إلى الهيئة الاستشارية التي تتشكل من 3 إلى 15 خبيراً. لكن المعارضة في المقابل لا تقيم أي اعتبار لمثل هذه الخطوات، لكونها ترى المشكلة في الصلاحيات الواسعة التي يمتلكها الرئيس أردوغان، لأنه سيجمع في يديه، وفي الوقت نفسه، سلطات رئاسة الجمهورية والحكومة وحزب العدالة والتنمية، وفي وسعه إصدار مراسيم تشكيل الوزارات وإقالة موظفين حكوميين، من دون موافقة البرلمان، فضلاً عن تبعية قيادة أركان الجيش له، وإدارة المصرف المركزي، وهو وحده من يرسم محددات ووجهة السياسة الخارجية. وفي السياق نفسه، يعتبر مناصرو ومنتسبو الحزب الحاكم وحليفه حزب الحركة القومية، أن نظام الحكم الرئاسي يهدف إلى هدم البيروقراطية، بوصفها المعبر الذي تتخذه القوى الدولية والاستعمارية، كي تتحكم في مصائر الدول، وتمارس وصايتها وهيمنتها من خلال البيروقراطيين، الذين يبقون مع كل رئيس أو كل حزب يتولى الحكومة، ويتسببون في عرقلة التنمية بحكم سيطرتهم على مفاصل الدولة، وسوف يستطيع الحزب الذي يشكل الحكومة في هذه المرحلة تحقيق برامجه التنموية بفريق البيروقراطيين المنتخبين معه. ويجادل المنحازون إلى النظام الرئاسي الجديد بأن من يعارضون هذا النظام ينتمون إلى النخبة السياسية أو الفئة المتعالية، الذين لا تزيد نسبتهم عن 5 في المئة من الشعب التركي، وكانوا من أكبر المستفيدين من الدولة، ولا يريدون أن يستفيد الشعب من خيرات بلاده، وما يغضبهم جداً هو امتلاك الشعب إرادته، منهم ينظرون إليه بوصفه مجموعات من الغوغاء والجهلة، ويتعاملون معه بمنتهى التعالي، ويتمسحون بمختلف الأيديولوجيات، وعادة ما يشكلون ما يسمى «الدولة العميقة» أو «الحرس القديم». ويسود اعتقاد خاطئ لدى الإسلاميين، خصوصاً منتسبي ومناصري حركات الإسلام السياسي، الذين يعتبرون نجاح تركيا في الانتقال إلى النظام الرئاسي تحت قيادة الرئيس أردوغان وحزبه هو نجاح للإسلاميين عموماً، وهذا خطأ وغير حقيقي، حسبما يقول أردوغان، لكونه يرجع هذا النجاح إلى الشعب التركي، الذي استطاع صياغة نموذج الديموقراطية الشعبية الحقيقي، بل يذهب إلى حدّ استهجان ما يسود من اعتقاد لدى بعض النخب العربية الذين يعتبرون «حزب العدالة والتنمية» الحاكم حزباً إسلامياً، فهو يعتبر هذا الحزب حزباً تركياً شعبياً، يمثل كل أطياف المجتمع التركي وفئاته، وأن من فاز بالأغلبية البرلمانية هو «تحالف الجمهور»، الذي يضم ثلاثة أحزاب، هي «العدالة والتنمية» و «الحركة القومية» و «الوحدة الكبرى»، ولها ممثلون من أطياف المجتمع التركي كلها وليس من الإسلاميين فقط أو القوميين. غير أن النظر في نتائج الانتخابات المزدوجة، الرئاسية والبرلمانية، التي جرت في 24 حزيران (يونيو) الماضي، يشير إلى أنها وضعت اللبنة الأولى في طريق التأسيس لشرعية جديدة للرئيس أردوغان وحزبه، وسيترتب عليها استحقاقات وتحديات عدة، تتعلق بطبيعة الحكم في تركيا وتركيبتها، وكيفية توزيع السلطات، وهوية الدولة في ظل النظام الجديد، إلى جانب علاقاتها الخارجية، الإقليمية والدولية، خصوصاً أن النصر الانتخابي الذي حققه «حزب العدالة والتنمية» الحاكم شاركه فيه حليفه «حزب الحركة القومية»، المختلف في الإيديولوجيا والتوجهات عنه، الأمر الذي قد تنشأ عنه مشكلة التعامل مع الحليف والشريك الانتخابي. ولعل التغيير المهم الذي أحدثته الانتخابات البرلمانية، كون خريطة البرلمان الجديد توزعت بين خمسة أحزاب، حيث حصل «حزب العدالة والتنمية» الحاكم على نسبة 42.56 في المئة من أصوات الناخبين، بعدد مقاعد 295 من إجمالي عدد مقاعد البرلمان البالغ 600، وحصل حزب «الشعب الجمهوري» على نسبة 22.65 في المئة بعدد مقاعد 146، و «حزب الشعوب الديموقراطي» على 11.70 في المئة من الأصوات بعدد مقاعد 67، يليه «حزب الحركة القومية» على نسبة 11.10 في المئة بعدد مقاعد 49، و «الحزب الصالح أو الجيد» بنسبة 9.96 في المئة من الأصوات بعدد مقاعد 43. ولعل هذه التركيبة الجديدة للبرلمان تؤشر إلى أن المعارضة ستكون أقوى بكثير مما كانت عليه في البرلمان السابق. ويضاف إلى هذه التشابكات والانقسامات السياسية مشكلة التباطؤ الاقتصادي، وارتفاع نسب التضخم والبطالة بين الشباب، والتراجع في سعر صرف الليرة التركية أمام العملات الأجنبية، وما يسببه من ارتفاع الأسعار، الأمر الذي يؤكد وجود تحديات في وجه الرئيس التركي وحزبه الحاكم، تضاف إلى الصراع السياسي الذي تشهده تركيا، وأفضى إلى انقسامات عميقة واستقطابات حادة، حول مجمل السياسات والممارسات الداخلية والعلاقات التركية مع الخارج. وفيما يخص علاقات تركيا وسياساتها الخارجية، ثمة تحديات إقليمية معقّدة في دول الجوار، سواء في سورية والعراق، أم في ما يتعلق بعلاقات تركيا مع بلدان الخليج ومصر وعلاقاتها مع إيران وروسيا، والتردي الذي اعترى علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ومع الولايات المتحدة. ولعل القضية السورية هي الهم الأساسي لتعامل تركيا مع الجوار الإقليمي، في وقت تحاول فيه تحسين علاقاتها مع الإدارة الأميركية، بعد الخلافات حيال التعامل مع الوضع في سورية، والتي أدت إلى تغيير وجهة السياسة التركية نحو المحور الروسي- الإيراني عبر مسارات أستانة وسوتشي. ولعل نموذج التفاهمات التركية الأميركية حيال مدينة منبج السورية سيكون المعيار الذي يقيس مدى التحسن في علاقات البلدين، إذ يدرك الساسة الأتراك أن تفاهماتهم مع الروس وساسة ونظام الملالي حيال الملف السوري قابلة للارتكاس والنسف، دفعت موسكو وطهران نظام الأسد، بعد استكمال سيطرته على المنطقة الجنوبية، إلى شن هجوم على إدلب، حيث تنشر تركيا 12 نقطة مراقبة عسكرية. وسبق أن تحدث الساسة الروس عن ضرورة سحب كل القوات الأجنبية من سورية، فإذا طاول الأمر القوات التركية، فسيفضي إلى نسف كل ما تمّ بناؤه من تفاهمات بين تركيا وروسيا ونظام الملالي الإيراني. تضاف إلى ذلك المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات الحماية الكردية، التي تعتبرها تركيا بوصفها جيباً إرهابياً، فيما تريد موسكو وواشنطن منحها خصوصية ذاتية في أي تسوية مقبلة، الأمر الذي يثير حفيظة الأتراك. وفي ما يخص العلاقات مع بعض الدول العربية، فهي ليست في أفضل حالاتها، خصوصاً مع بعض دول الخليج ومصر. ولعل تطبيعها يشكل تحدياً كبيراً أمام راسمي السياسة الخارجية الجديدة، المحكومة بمنظومة التحالفات التركية، إذ المطلوب هو البحث عن شركاء جدد في الإقليم وتطبيع وإصلاح العلاقات الفاترة والمتوترة مع عدد من الدول العربية، بما يفضي إلى التصدي لمشروع الهيمنة الإيراني على المنطقة، لكن الساسة الأتراك يبدون غير مكترثين به، بالنظر إلى حجم العلاقات التجارية بين أنقرة وطهران. ممكنات وحدود التغيرات في السياسة الخارجية التركية قد تطاول جميع الملفات، وهي محكومة بالتنازلات والحلول الوسط التي تقدمها جميع الأطراف، ذلك أن تغيرات السياسة الخارجية، تحددها المصالح، قبل كل شيء، الاقتصادية والجيوسياسية، من منطلق فهم دور تركيا وواقعها وتشابك علاقاتها مع دول الإقليم والعالم، والابتعاد عن العزلة إقليمياً، وبالتالي، لن تحصل تغييرات جذرية وسريعة في المنظور القريب، نظراً إلى تعقيدات الأوضاع في المنطقة ومقتضيات الأمن القومي التركي. * كاتب سوري مقيم في تركيا
مشاركة :