يستهل سفر التكوين والذى يتحدث فيه عن خلق الإنسان؛ وضّح الكتاب أن بعد حقبة سقوط الأبوين الأولين، تفشّت الخطايا بشكل وبائي، وأخذت تتكاثر وتنمو؛ لتواكب تطورات التاريخ الإنساني. بالأسلوب الملائم. حيث إن كل عصور الحضارات قدمت أسلوبها الخاص بها، فلا نجد تطورا بشريا عبر الزمان يخلو من وجود شر يواجهه، وعيوب تنشئ من إسهاماته، ففى بزوغ عصر فن العمارة، ظهرت عبادة الأوثان وتعدد الآلهة، فى العصر الحديدي، صُنعت السيوف، فى عصر العولمة، انتشرت الشائعة فى ثوب التكنولوجيا؛ وأصبحت أكثر رواجـًا وأبلغ تأثيرًا، فى ظل الهواتف الذكية وتعدد منصات التواصل الاجتماعى التى تساعد على سرعة انتشارها، بأشكالها المتعددة: (النكتة، الصور، العمل الدرامي، رواية التاريخ). السؤال هنا: هل انتشار الشائعة يرتبط بالتقدم أم بتدهور العلاقات؟ هل بذرة الشائعة هى الجهل أم فقدان الثقة فى الآخر؟بلا شك، انتشار الشائعات بكثافة؛ يُثير بدوره العديد من التساؤلات، حول ماهية الشائعة؟ وفى أى حقبة من الزمن ظهرت إياها؟ هل فى جنة عدن أم فى عصور متأخرة؟ هل كان للشائعة دور فى حياة المؤمنين؟ وهذا ما نود التطرق إليه.يوضح سفر التكوين فى الفصل الثالث أن الشائعات: بذرة طرحت ثمارها فى جنة عدن؛ بعدما نجحت الحية، فى عمل بلبلة نفسية وفكرية، بتزييف وقلب الحقائق، نتيجة اعتمادها على المعادلة: جزء صدق + جزء خداع = شائعة (هذا هو مفهومها اللغوي) يتضح ذلك فى حوار الحية، مع حواء: «أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة» (صدق) + «لن تموتا... تصيران مثل الله» (كذب).بالفعل، سقط آدم وحواء فى فخ الشائعة؛ فمُنذ تلك الحقبة، أخذ الشر يتفاقم ويستشرى فى جميع أوصال المجتمع الإنساني، تمزيق أواصر المحبة، التفاهم والتعاون، بين أبناء الرحم الواحد. لكون إياها، أخطر أدوات الحرب النفسية، وآفة العلاقات؛ أداة حدوث تغيير جذرى فى الأنماط السلوكية، التكوين ﺍﻟﺜﻘﺎفى ﺍﻻجتماعى وهذا ما حدث مع سكان «شنعار»، عندما انساقوا وراء شائعة «هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ونصنع لأنفسنا اسمًا لئلا نتبدد على وجه كل الأرض»، ليتم التحول من التجانس الثقافى والاجتماعي إلى الاغتراب «من لسان واحد ولغة واحدة إلى لغات ولهجات مختلفة»، أى فقدان التواصل بين الأشقاء. أى موت الأنبياء والرسل الأدباء والفلاسفة أمثال سقراط، وفرج فودة.. وغيرهما بسلاح الشائعات. السؤال الذى يواجهنا ويتحدّانا اليوم كيفية بناء جسور التواصل مع التعددية الثقافية والدينية؟ كيف يتم دحر الشائعات فى مجتمع يُقدس المسموعات؟بلا شك، تُولد الشائعة، عندما يختلق منافقٌ، كذبة بشكل قصدي (غيرة، منافسة...) لتنتشر مع سذاجة المتلقى دون التحقيق فيها، بالتمعن فِى الأناجيل، نجد حتى السيد المسيح، لم يسلم من الشائعات، نذكر هنا شائعة واجهته فى بداية خدمته تخص «تحديد هويته» فقالوا: قوم «يوحنا المعمدان، وآخرون: إيليا، وآخرون: إرميا أو واحد من الأنبياء»، لقد ساهمت تلك الشائعة فى حدوث بلبلة فكرية لدى المستمع، أو بطريقة أخرى تغييب مُتعمد أو غير مُتعمد بهدف صناعة جمهور متفرج لا يجيد إعمال العقل يتخذ قراراته بناءً على المسموعات. كان من رواد هذا الفكر صاحب الوزنة الواحدة، فى مثل الوزنات: فى قوله: «يا سيد، عرفتك رجلا شديدا تحصد من حيث لم تزرع، وتجمع من حيث لم توزع» حقًا، يعبر هذا الكلام عن طبيعة إنسان يفتقد للثقة بنفسه، «شعور بالنقص». لذا حاول تعويضه بالاسترسال عن المالك بكلام سلبي.بلا شك، استطاع السيد المسيح، تخطى الشائعات، آنذاك؛ عبر صليب الحب، القبول والشفافية بمبدأ «إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما. إن سمع منك فقد ربحت أخاك» نعم، بإعلاء قيم: إصلاح النفس ممكنًا فى أى وقت. طالما الإنسان كائن حي، ليس جماد. بالتدقيق وفحص المسموعات قبل أن تتحول إلى ألغام «أصغوا إلى معرفة الفهم». بتلاشى الصعود على أنقاض الآخرين؛ والتفنن فى إسقاط الآخر: فى فخ تسجيل المكالمات، الاسكرين شوت. بخلق جو صحي؛ هدفه التناغم الذى يولّد الأمان؛ الذى يعتبر أعظم ما تقدمه للناس. الذى هو أساس العلاقات، الذى يضمن حرية الفرد فى التعبير عن الذات. وفن التنازل، إحساس الفرد بالخطر الجماعي. بتثمين قيم الحياة المشتركة التى فيها شبكة العلاقات تحتاج إلى صيانة بصفة مستمرة، فى جو مفعم بالأمان، الشفاء والقبول للدساس لذاته، قبل الآخرين. وختامًا، نستطيع القول: تتلخص جميع الحاجات البشرية فى الحاجة إلى الأمان، لا سيما فى بناء العلاقات؛ لدحر بيئة الشائعات؛ لكن يا حسرتاه، كيف يسود الأمان فى زمن الدساسين مروجى الشائعات؟ كيف يتم تعضيد الآخر؛ لقد صار تشويه سمعته مجالا للتقليل من قدراته والتحقير من إمكانياته؟!
مشاركة :