الشعورُ بالظلمِ شعورٌ مَقِيتٌ. فى الحقيقيةِ لا أجدُ كلماتٍ تستطيعْ أنْ تَرْسُمَ على الورقِ ما تَئِنُ به الأحشاءُ تحتَ وطأةِ هذا الشعورِ. أتحدثُ بصورةٍ عامةٍ عن شعورِ الإنسانِ، أيُ إنسانٍ بالظلمِ. هو شعورٌ يأخذُ روحَك فتشعرَ بوجعٍ جسديٍ حقيقيٍ فى قلبك ومعدتك يصاحبُها مرارةٌ فى الحلقِ مع سِدةِ نفسٍ حقيقيةِ عن الحياةِ وتوترٌ مستمرٌ بدوائرِ العقلِ التى لا تَكُفَ عن التفكيرِ المرتبكِ واجترارِ الأحداثِ بمرارةٍ، مع تكرارِ نفسِ السؤالِ، لماذا؟ خاصةً لو أنَّ الظلمَ وَقَعَ عليك مِمَنْ أحببتَهم بإخلاص وآَمَنْتَ بهم ولهم. أمَّا أسوأَ ما يصاحبُ هذا الشعورِ من أعراضٍ، فإنَّه «غرابُ البَيِن الأسودِ» أى الرغبةُ فى الانتقامِ التى تَطُلُ بوجهها القبيحِ من حينٍ لآخرِ وتأتى رأسًا من الإنسانِ العتيقِ. لا أتصورُ أحدًا فى الوجودِ لم يَذُق مرارةَ هذا الشعورِ المَقيتِ. تَتَفاوتُ درجتُه وحِدتُه، زمنُ استمراره، أسبابُه، ثقافتُه، نتائجُه وأضراره، لكنَّه فى النهايةِ أغنيةٌ تطوفُ بقلبِ ووجدانِ كلِ إنسانٍ ولو لمرةٍ واحدةٍ فى الحياة. رِدةُ فعلنا تجاه هذا الشعورِ تتفاوتُ فى درجتها وطبيعتها أيضًا. أولُ ما يأخذنا الشعورُ بالظلمِ إليه هو التركيزُ على مَن ظَلَمَ. التفكيرُ فيمَن ظَلمَ أمرٌ طبيعيٌ ومبررٌ، خاصةً لو أنَّه حبيبٌ، قريبٌ، صديقٌ، أو شخصٌ أكرمته فتَمَرَّدَ، أو شخصٌ آمَنَتَ به (أو له) فخَانَ وطَعنَك فى ظهرِك بغدرٍ. لكنَّ التركيزَ على من ظَلَمَ يُحَوِلَك عبدًا له، نعم عبدًا. فعندما لا تستطيعَ أنْ تَتَحررَ من التفكيرِ فيه ليلَ نهارٍ، أيًا كانَ ما فَعلَ فقد صرتَ عبدًا له. وما أقترحَه عليكَ هنا هو التركيزُ فى موضوع الظلمِ، ومحاولةْ رؤيتِه كأداةٍ يُمكِنَ أنْ تَضَعَها فى يدِ الله لتكونْ أداةً للتشكيلِ والنموِ على كل المستويات. ثانيًا، الرغبةُ فى الانتقامِ. وآهٍ من هذه الرغبةِ المَحمومةِ خاصةً لو أنَّك تَمتَلُك ما يَدينُ هذا الظالمِ. هى بالحقِ أكبرَ تجربةٍ وأصعبَ تَحدٍ لمبادئِك، الإنسانيةُ قبل المسيحيةِ والروحية. يَظْنُّ مَنْ يَظلِمونَ، خاصةً عندما يستخدمونَ بعضًا من أسرارك بعد تشويهها لضربك من الخلف، يَظنونَ أنَّ حياتهم مُستَتِرةٌ وأنَّ أسرارهم مَخْفِيةٌ حتى عن الجنِ الأزرق (مش عارف ليه الأزرق بالذات). وأسوأُ ما فى الأمرِ هو أنْ يكونَ فى يدكِ من الملفاتِ، ما يكفى ورقةٌ واحدةٌ منها لضربِ كرسى كبير جدًا فى الكلوب. لكن دعنى أقول لك، الرغبة فى الانتقام لن تدمر أحدا سواك. من يظلمون فى الغالبِ لديهم درجةٌ ليستْ بقليلةٍ من الأنانيةِ، الانحصارِ فى الذاتِ، الأمرُ الذى يجعلَهم مُستعدِينَ للتضحيةِ بأى شيءٍ لتحقيقِ طموحاتهم ولو على حساب أى أحد. وما أقترحَه عليك هنا يا صديقى هو أنْ تَتخذَ قرارًا بألا تَفْعلَ أيَ شيءٍ وأنتْ فى حالةِ الغضبِ والمرارةِ. اعْطِ لنَفْسِكَ الفرصةَ لِلاسْتِشْفاءِ بعيدًا عن مزيدٍ من الضغوطِ وتعقيد الأمور. فإذا لم تكنْ قادرًا على فعلِ الخيرِ فعلى الأقلِ لا تفعل الشر، التزمْ الصمت إلى أنْ تكونَ قادرًا على فعلِ الخيرِ. ثالثًا: الاجتنابُ وقطعُ العلاقاتِ. من المؤسفِ أن هذا الفعل يحدث على كل المستويات، حتى بين الأزواج داخل البيت الواحد. ومع كل التقدير ِلكل المشاعر المتألمة، ومع تضامنى التام مع كل مَن يرقصونَ من الألمِ مثلَ الطيرِ المذبوحِ، أكادُ أجزمُ بأنَّ قَطعَ العلاقةِِ، أيُ علاقةٍ ليس هو الحل. فربما نستطيع أنْ نتحرر َ من علاقةٍ أيًا كانت، إنما من الصعبِ جدًا، ربما من المستحيلِ، التحرر ُ من الجروح والآلام التى حُفِرتْ فى وجداننا من الطرفِ الآخر فى هذه العلاقة بنفس البساطةِ. يَظلُ الجرحُ غائرًا، تظلُ الآلامُ ملتهبةً، ويَظلُ مخزونُ الغضبِ يتزايدُ حتى يَتحولَ إلى بركانٍ، تُصبحُ السيطرةُ عليه فى مرحلةٍ معينةٍ ضربًا من ضروبِ الخيال. وما أقترحُه عليك هنا يا عزيزى هو المواجهة، المواجهة، ثم المواجهة. «إن أخطأ إليكَ.. فاذهب» (مت ١٨: ١٥). ثم المكاشفةُ، المكاشفة، والمكاشفة، «وعاتبه» (مت ١٨: ١٥). ليس شرطًا أبدًا أن تعود العلاقةُ كما كانت من قبلٍ، فوضعُ الحدودِ بينك وبينَ من يُصرُ على إيذائك ضرورةً يُحددُها الإيمانُ والعلوم وكلُ الأعراف. لكنَّ خراريجَ المرارةِ، براكينَ الغضبِ، والرغبةَ المحمومة فى الانتقام، لا يمكن أنْ تُشفَى دونَ أنْ يَتَدخلَ مِشرَطُ المواجهةِ والمكاشفةِ بكلِ آلامه كى يَفتحَ طريقًا لصديد الخبرات المؤلمة المتراكمة وسمومِ التصوراتِ غيرِ الصحيحةٍ، أنْ تَخرَجَ كى يَتَمَكَنَ باقى الجسدِ من الشفاء. يُمكنُ، بنعمة الله، لمرارةِ الظلمِ أنْ تتحولَ لطاقةِ شفاءٍ ونموٍ وبناء، ليس فقط لمَن ظُلِمَ، بل أيضًا لمَن ظَلَمَ.
مشاركة :