يُكمل حسين الزهري في الجزء الثاني من كتاب «مدرسة الإسكندرية المتأخرة وأثرها في التراث الفلسفي الإسلامي»، والذي أصدرته أخيراً مكتبة الإسكندرية تحت عنوان «سمبليكيوس وأثره في ميتافيزيقا ابن سينا» دراسة فلاسفة الفترة البيزنطية المتأخرة، وهي الفترة المسماة نهاية العصر الكلاسي، ثم يتتبع انتقال فكر هؤلاء الفلاسفة أو شراح أرسطو المتأخرين عبر الترجمة إلى التراث العربي الإسلامي، كما يدرس طرق معرفة الفلاسفة والمفكرين العرب بالتراث السكندري المتأخر، وأثر فكر السكندريين في الفلسفة العربية الإسلامية. ويتناول الكتاب حياة وفلسفة سمبليكيوس والسياق الفكري الذي كتب فيه شروحه الأرسطية، وكيف أنه حافظ على الأفكار الفلسفية اليونانية الوثنية في الإمبراطورية المسيحية التي كانت تحارب كل من يقترب من أصول اللاهوت الكنسي، ثم انتقال سمبليكيوس من الإسكندرية إلى أثينا ومنها إلى الشرق بعد اضطهاد الإمبراطور جستنيان للفلاسفة وغلقه كل المدارس الفلسفية. ثم يدرس المؤلف بقاء فكر سمبليكيوس ومؤلفاته الفلسفية وترجمتها وتأثيرها في الفلاسفة العرب في الحضارة العربية الإسلامية، إذ كان سمبليكيوس أحد أهم روافد الفكر اليوناني القديم إلى العرب. قسّم المؤلف كتابه إلى أربعة فصول ومقدمة وخاتمة. وفي المقدمة، أشار إلى محتويات الكتاب باختصار. وتناول في الفصل الأول، تحت عنوان: «سمبليكيوس الشارح الأرسطي في نهاية العصر الكلاسيكي»، حياة سمبليكيوس ودراسته في الإسكندرية، وانتقاله للدراسة في أثينا على يد الفيلسوف الدمشقي، ورحلته الشهيرة هو وستة من زملائه الفلاسفة إلى بلاد فارس، ثم درس الشرح الفلسفي ومنهجه عند سمبليكيوس، ومصادره التي اعتمد عليها في كتابة فلسفته. ثم قدّم بالتفصيل مؤلفات سمبليكيوس التي كتبها كلها في صورة الشروح، وهي شروحه على كتابات أرسطو، و «كتاب الدليل» لإيبيكتيتوس الرواقي. وفي الفصل الثاني، المعنون «فلسفة سمبليكيوس»، قدّم المؤلف جوانب فلسفة سمبليكيوس المختلفة. ودرس تفصيلاً فلسفة الطبيعة في شروح سمبليكيوس، وناقش اعتقاده في الله، وأشار إلى أصالة سمبليكيوس كشارح للتراث الأرسطي في أواخر العصر الكلاسيكي. وفي الفصل الثالث، تحت عنوان «انتقال فلسفة سمبليكيوس ومعرفته في العالم الإسلامي»، درس المؤلف انتقال شروح سمبليكيوس وتراث الأفلاطونية الجديدة المحدثة المتأخرة إلى العالم الإسلامي، ثم تتبع أثره في المؤلفات العربية الحديثة والمعاصرة. وفي الفصل الرابع والأخير، الذي جاء بعنوان «أثر فلسفة سمبليكيوس في فلسفة ابن سينا»، تناول المؤلف أثر الشروح المنطقية التي كتبها شُرّاح أواخر العصر الكلاسيكي في المنطق الإسلامي، ثم تحدث عن تأثير أفكار سمبليكيوس في التراث الفلسفي الإسلامي قبل ابن سينا، ثم قدّم دراسة عن أثر فلسفة سمبليكيوس في فلسفة ابن سينا. وأنهى المؤلف كتابه بخاتمة تناول فيها أهم النتائج التي توصل إليها من خلال دارسته أثر فلسفة سمبليكيوس ومنهجه في التراث الفلسفي الإسلامي، خصوصاً في فكر ابن سينا. ويشير المؤلف إلى أن سمبليكيوس (560-480 م) يعتبر من أهم النماذج على تعقب السلطات المسيحية للوثنية. وتشير شروحه لكتابات أرسطو إلى الموقف المعقّد الذي تعرّضت له الوثنية في أثينا في نهاية العصر الكلاسيكي، وهذه هي الشروح التي كتبها في المنفى، الذي ربما كان في بلاد فارس. وتمثل حياة سمبليكيوس وفلسفته أهمية كبرى لكل دراسي تاريخ الفلسفة القديمة؛ على اعتبار أنها تمثل المرحلة الأخيرة من الفلسفة اليونانية، فضلاً عن كون سمبليكيوس من أهم شراح أرسطو في نهاية العصر القديم. وهذه الشروح ضمّت كل العلم والفلسفة اليونانية القديمة، ولم تكن مقتصرة على الفهم الكامل للفلسفة الخاصة بأرسطو، بل قامت بإعطاء الفرصة لإعادة بناء تاريخ الانتقادات والشروح الوثيقة الصلة بفلسفة أرسطو في العصر القديم. وعرف الباحثون في تاريخ الفلسفة اسم سمبليكيوس لسببين؛ أولهما: أن شروحه حفظت الكثير من التراث الفلسفي القديم، خصوصاً لفلاسفة ما قبل سقراط. وثاني الأسباب: كون سمبليكيوس أحد الأفلاطونيين السبعة الذين اختاروا مغادرة الإمبراطورية الرومانية قاصدين بلاد فارس بعد أمر الإمبراطور جستنيان سنة 531 م بحظر تعليمهم الفلسفي، ومنعهم من العيش بحرية وفقاً لمعتقداتهم الفلسفية. ووصلت شروح سمبليكيوس إلى أكثر من ثلاثة آلاف ورقة، وعلى رغم ذلك لم يلق الاهتمام البحثي الأكاديمي الذي يستحقه، بل اعتبره بعض الباحثين صاحب فكر تقليدي وتنقصه الأصالة. ويعتبر سمبليكيوس شارحاً أصيلاً ومستقلاً لفلسفة أرسطو. وشهدت الدراسات الكلاسيكية في العقود الثلاثة الأخيرة تقدماً كبيراً في دراسة سمبليكيوس ومساهماته الفكرية، وتوصلت إلى أن شروحه تستحق مكانة متميزة في تاريخ الفلسفتين الأفلاطونية والأرسطية. وأصبح جلياً لدى الباحثين أن طلاب الفلسفة الأرسطية ودارسي تاريخ الفلسفة اليونانية لا يمكنهم الاستغناء في الوقت المعاصر عن شروح سمبليكيوس لكتابات أرسطو. وأثبت عدد من الباحثين، أمثال هان بالتوسين، أهمية فلسفة سمبليكيوس وأنه كان فيلسوفاً ذا فكر مركّب، وكان الهدف من شروحه تأسيس فكر محدد، وأن هناك ثلاثة مؤثرات كوّنت كتابته لشروحه، وهي مؤثرات فلسفية وروحية فضلاً عن الأحداث السياسية في عصره خصوصاً في العقدين الثاني والثالث من القرن السادس الميلادي. وعمل سمبليكيوس على دمج أفكار الأرسطية والرواقية والفيثاغورية بالفلسفة الأفلاطونية، وتخطى السابقين عليه بمحاولته التوفيق بين التراث الفلسفي اليوناني مع بعضه بعضاً، بغية التصدي لهجوم المسيحية الممنهج ضد الفلسفة الوثنية بتأكيدها الخلاف الفكري بين الفلاسفة؛ فكتب سمبليكيوس شروحه لدعم الوثنية في صورة كتب مدرسية يتعلم منها الطالب الفلسفة اليونانية. وفسر سمبليكيوس فلسفة أرسطو تفسيراً أفلاطونياً، ومن هنا فهو يظهر أرسطو معتقداً بإله خالق، وهو ليس موجوداً في مؤلفات المعلم الأول. وجعل أرسطو يعتقد بأزلية النفس. وعمل على إظهار فكر أرسطو متسقاً في مؤلفاته كافة، كما استخدم فلسفة أرسطو لإضافة آرائه الفلسفية الجديدة. وقدم سمبليكيوس تفسيراً جديداً لفلسفة أفلاطون؛ إذ جعله موافقاً أرسطو في أفكاره، فأصبح أفلاطون في شروح سمبليكيوس أرسطياً، وأرسطو أفلاطونياً، وما كان اختلافهما إلا في الألفاظ والعبارات والمنهج الذي نظر من خلاله كل فيلسوف إلى العالم. وعمل سمبليكيوس، مثل الأفلاطونيين المتأخرين من وثنيين ومسيحيين في مدرسة الإسكندرية، على التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، لكنه كتب شروحاً على أرسطو أكثر من شرحه على أفلاطون، وركّز شروحه الأرسطية في شرح منطق أرسطو، خصوصاً كتاب «المقولات» أكثر ما شرح مؤلفاته الأكثر تعقيداً كالميتافيزيقا. وتظهر على الشروح السكندرية مسحة دينية أفلاطونية في تفسيره نصوص المعلم الأول، وعدّ سمبليكيوس الفلسفة علماً يستعد به الإنسان للموت، واعتقد بتطهير النفس استعداداً لأزليتها. وتمت ترجمة الفلسفة اليونانية الكلاسيكية إلى اللغة العربية ممثلة في العديد من الشروح التي كتبها الشراح المتأخرون في مدرستي أثينا والإسكندرية، ومنها شروح سمبليكيوس. وكانت شروح المتأخرين من اليونانيين ذات أهمية كبرى من النص الأصلي ذاته عند العرب؛ نظراً إلى ما تحمله من معلومات وفيرة. وانتشر اسم سمبليكيوس وشروحه في التراث الإسلامي مع غموض في معرفة المسلمين بشخصه وفلسفته، بل كان للعرب تصور مغاير، عن غيرهم، حول سمبليكيوس. وكان لأرسطو وأفلاطون وأفلوطين أفكارهم الفلسفية التي تأثر بها ابن سينا (ت 428 هـ) وضمنها فلسفته. ويحاول مؤلف الكتاب تتبع أثر الشراح اليونانيين المتأخرين، خصوصاً سمبليكيوس في فلسفة ابن سينا، بخاصة في شرحه فلسفة أرسطو. وكان ابن سينا الفيلسوف بحق في الحضارة الإسلامية، ولا بد أنه قرأ الشروح المتأخرة، كما أكد عدد من التراجمة القدماء ذلك، إذ ذكروا أنه قرأ نصوص الفلاسفة الكبار، وقرأ الشروح التي كتبت عليها. ويدرس المؤلف في هذا الكتاب استمرار منهج الشراح المتأخرين وفكرهم في فلسفة الشيخ الرئيس وكيف رأى بعد تأثره بهؤلاء الشراح ومنهم سمبليكيوس إلى فلسفة أرسطو. وهذا هو الكتاب الثاني الذي يدرس فيه المؤلف أحد أعلام الشراح المتأخرين ممن تعلم الفلسفة في مدرسة الإسكندرية؛ لتتبع معرفة المسلمين بفكره، كجزء من تراث مدرسة الإسكندرية المتأخرة، ودراسة تأثيره في الفكر الإسلامي. وخصص هذا الكتاب تحديداً لبيان أثر الفلسفة الأرسطية الأفلوطينية المتأخرة التي قدمها سمبليكيوس في شروحه على أرسطو في الفلاسفة المسلمين، خصوصاً ابن سينا. كما يدرس المؤلف معرفة المسلمين بشخص سمبليكيوس وشروحه، والطرق التي عرفه المسلمون من خلالها، وأفكاره التي انتشرت في العالم الإسلامي. وذلك هو تمثيل لتفاعل الحضارتين اليونانية- خصوصاً في فترتها الأخيرة- والإسلامية، وتحقيق لكيفية استخدام ابن سينا ما انتهى إليه الشراح المتأخرون في كتابة الفلسفة الإسلامية. ويلقي الكتاب الضوء على منطقة مظلمة في تاريخ الحالة الفلسفية والعلمية في أواخر العصر اليوناني الروماني، وتحديداً في المناطق الهللينية لحوض البحر الأبيض المتوسط، والتي جاء إليها المسلمون وسيطروا عليها، وتفاعلوا مع دياناتها وفلسفاتها بالتحليل والنقاش والدفاع ليؤسسوا فكرهم الجديد. وهذا ما أبدعه ابن سينا بعد أن اعتمد على سمبليكيوس وشرح ما سبقه ليفسر الوجود في زمنه معتمداً على أفكار ومعطيات وتفسير سابقيه، ليبدع ويصوغ الشكل النهائي لفلسفة حضارته. كان فكر ابن سينا الجديد جزءاً من إبداعه في كتاباته الفلسفية الجديدة والعميقة، عاكساً بذلك روح الثقافة العربية الإسلامية بجلاء منقطع النظير.
مشاركة :