للسوق العربية هندسة بناء خفية، تستر خلفها رؤية للحياة وللتجارة، وللعلاقات بين البشر، ورغم مرور مئات السنين مازالت في القاهرة أسواق متكاملة تحتفظ بطابعها التاريخي، لم تنل منها العمارة الحديثة، ومازالت تفوح بعبق التاريخ الإسلامي، فقد شُيدت مدينة القاهرة التاريخية في العصر العربي والإسلامي لتخدم جميع أغراض الحياة اليومية ومنها التجارة. ضمت مدينة القاهرة التاريخية منذ إنشائها عديداً من الأسواق إلا أن أغلبها شُيد بنهاية العهد المملوكي، وكانت هذه الأسواق تثير إعجاب التجار الأجانب بسبب أنشطتها وثرائها. ومن أشهر هذه الأسواق سوق خان الخليلي، الذي يعد من أهم الأسواق القديمة وأشهرها في مصر، وهو دليل على عبق الماضي وفنونه التي لا يضاهيها فن في جمالها وذوقها ودقة تفاصيلها، وكذلك سوق القصبة وسوق الفحامين، وسوق الصاغة، وسوق الشماعين، وسوق السروجيين، وسوق القصاصين وغيرها الكثير من الأسواق التي تحفل بها مدينة القاهرة التاريخية. القصبة أكبر الأسواق في القاهرة وهو من الأسواق الشهيرة، وكان أعظم وأكبر أسواق مصر، وعنه يحدثنا المقريزى: «....والقصبة أعظم أسواق مصر، وسمعت غير واحد ممن أدركته من المعمرين يقول إن القصبة تحتوي على اثني عشر ألف حانوت». هذا العدد الهائل من الحوانيت كان يبدأ في زمن المقريزي بعد أن يلج الداخل من باب الفتوح، القائم الآن، فيما يلي ذلك الباب كان يوجد سوق اللحم والخضر، كانت حوانيت القصابين تصطف متجاورة تبيع لحم الضأن والماعز، وكان القصابون يلفون اللحم في ورق الموز، وكذلك سوق الفحامين وهو مقر لتجار الفحم البسطاء منذ أمد بعيد، ومع ذلك ظل محتفظاً بهذا الاسم على الرغم من تحويله لمقر تجار المنسوجات الموسرين، وهناك سوق باب الفتوح وهو داخل باب الفتوح أحد أبواب القاهرة التاريخية، وبه حوانيت اللحامين (أي بائعي اللحوم) والخضريين (أي بائعي الخضر)، وكذلك سوق الشماعين ويقع بالقرب من الجامع الأقمر وحوانيته عامرة بالشموع الموكبية والفانوسية، وسوق المرحلين ويختص ببيع لوازم الإبل عند الرحيل وخاصة في أثناء موسم الحج، وسوق الحلاويين وتباع فيه جميع أنواع الحلوى، وربما كان هذا السوق أصل الاسم الذي أطلق فيما بعد على حارة السكرية التي تدور فيها أحداث ثلاثية نجيب محفوظ، وكذلك سوق الدجاجين، وفيه يباع الدجاج والأوز والطيور المتنوعة، وكان يباع فيه عصافير محبوسة يشتريها الأغنياء ليعتقوها، وسوق السروجيين، وسوق القصاصين. خان الخليلي سوق خان الخليلي هو واحد من ثمانية وثلاثين سوقاً كانت موزعة أيام المماليك على محاور القاهرة، وقد أنشأه الأمير جهاركس الخليلي أحد أمراء السلطان «برقوق»، وقد كان الأمير الخليلي يشغل وظيفة (أمير أخور)، أي أمير الخيل وكان أيضاً كبير التجار في عصر السلطان برقوق عام 1382م، وقد أسس السوق في الأصل لأداء وظيفة الخان. وقد جعله جهاركس الخليلي، وقفاً إسلامياً عاماً، يُوزِّعُ كل يوم رغيفين على كل فقير، من المردود الذي يأتي به الخان من خلال تخزين البضائع واستراحة التجار واتخاذهم منه مكاناً لمبادلات ومفاوضات تجارية. وتقول كتب التاريخ إن كلمة خان أصلها فارسي وتعني في اللغة العربية «وكالة». ويقع سوق خان الخليلي حالياً بين جامع الحسين، وشارع الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، وبين ميدان وشارع الجامع الأزهر، وبالنظر إلى تاريخ وأسرار هذا المكان قبل بناء خان الخليلي نجد أن هذا الخان لم ينشأ فجأة، فقد شهد أمجاداً أسطورية ربما هي التي مهدت للمكانة التي يتمتع بها الآن، فقد كان الرقعة الإستراتيجية التي احتوت قلب الدولة الفاطمية، حيث إن سوق خان الخليلي يحتل الآن الموقع نفسه الذي كانت تشغله شرفات وحجرات وقاعات القصر الشرقي الكبير المخصص لإقامة الخليفة المعز لدين الله الفاطمي. ويقول المقريزي إن الخان مبنى مربع كبير يحيط بفناء ويشبه الوكالة، تشمل الطبقة السفلى منه الحوانيت، وتضم الطبقات العليا المخازن والمساكن. وفي سنة 1511م هدم السلطان الغوري خان الخليلي وأنشأ مكانه حواصل وحوانيت وربوعاً ووكالات يتوصل إليها من ثلاث بوابات. وقد هدمت هذه الحواصل والحوانيت وأعيد بناء الخان بعد ذلك، وكان آية من الجمال والإبداع، إضافةً إلى اتّساعه وفخامته، فكان على هيئة قصر مهيب متسع للغاية مبنى من الحجر المشذب، ويرتفع ثلاثة طوابق، توجد في الأدوار السفلية حوانيت جميلة تحيط بميدان رائع مربع الشكل يقع في الوسط وفي مواجهتها يوجد صف من العقود المتكررة المرفوعة على أعمدة رائعة الجمال والمحيطة بها من جميع الجهات. وفي هذا المكان يعقد التجار صفقاتهم، أما الميدان الذي في الوسط فإنه يستخدم كإطار لبيع البضائع بالمزاد، ولعقد صفقات البيع والشراء بالجملة، وليس مسموحاً بالإقامة في هذا المكان إلا للتجار ذوي السمعة الطيبة، وفي أعلى هذا المبنى مقر إقامة التجار. وكان للخان مداخل متعدّدة توصل جميعها إلى الصّحن الفسيح الذي يتوسّط المبنى، وتحيط به الأروقة على طبقتين، تطلاَّن على الخارج نحو الشوارع والأزقّة والأسواق المحيطة من خلال مشربيات بديعة الطراز. خان الخليلي بين الماضي والحاضر وتعرض البضائع في الخان بالأسلوب الذي تميزت به القاهرة القديمة، حيث كانت تتلاصق الأسواق وتمتلئ الحارات بالحوانيت التي تعرض البضاعة نفسها بأسعار متفاوتة. يشتمل الخان على الحرف التقليدية والتراثية ومئات العمال والحرفيين الذين يمتهنون الحرف والصناعات اليدوية مثل السجاد والسبح والكريستال وصناعة البردي وصناعة الحلي الذهبية والفضية والتمائم الفرعونية. ونظراً لشهرة خان الخليلي التي تجاوزت حدود مصر ووصلت إلى مختلف أنحاء العالم جعلته هدفاً لزوار القاهرة من المصريين والعرب والأوروبيين، فالسوق في مجمله الآن هو عبارة عن سوق رائجة للتحف والمجوهرات، وداخل دروبه المتشعبة والمتقاطعة تتجاور وتتعانق أحدث منتجات التكنولوجيا مع أقدم الصناعات والمنحوتات اليدوية التي أبدعها الفنان المصري البسيط وجسد فيها عراقة خان الخليلي وتاريخ القاهرة المديد، فأبرز منتجاته التي تحظى الآن بشغف زواره الأجانب والعرب أيقونات وتماثيل ومشغولات فنية وسجاجيد مزركشة بالرسومات النادرة، وغيرها من المنتجات الأخرى كالمعادن والنحاس المنقوش والمدقوق، والمشغولات الفضية والذهب، والأخشاب المطعمة بالعاج والصدف. ورغم صغر المحال إلا أنها تكتظ ببضائع من كل شكل ولون، فبمجرد دخول الخان لا يظهر سوى بريق النحاس والزخارف في القناديل النحاسية المطعمة بالزجاج المعشق والزجاج الملون في «الشيشة» (النرجيلة) بمختلف أحجامها وأشكالها والطرابيش التي لم يعد لها وجود إلا في محال خان الخليلي، إضافة إلى الحقائب الجلدية، والقطع الأثرية الفرعونية المقلدة بحرفية عالية، وترتبط بخان الخليلي شبكة الأسواق المحيطة به التي تتخصص كل منها بسلعة أو صناعة أو حرفة معينة، ولا يزال خان الخليلي نموذجاً وعنواناً للخانات الإسلامية. وجميع منتجاته تجسد وتستوحي فنون كل الحضارات التي مرت على مصر ابتداء من الحضارة الفرعونية ومروراً بالقبطية والرومانية وانتهاء بالحضارة الإسلامية.
مشاركة :