قيام حكومة النمسا اليمينية بطرد عشرات الأئمة الأتراك وإغلاق سبعة مساجد لم يكن قراراً اعتباطياً لإرضاء أمزجة ناخبي التيارات اليمينية المتشددة والشعبوية التي حققت معدلات فوز كبيرة متوقعة في الانتخابات الأخيرة، بقدر ما يعبر عن سياسة جديدة أكثر جرأة في التعامل مع الإسلام السياسي ودور تركيا في أوروبا مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى التي تعيش فيها جاليات إسلامية كبيرة تضم مهاجرين من أصول تركية يسعى أردوغان سوية مع حركة الإخوان إلى تحويلها إلى حصان طروادة لأهدافه ومشاريعه في القارة الأوروبية. تشكل القوى اليمنية والشعبوية أحد أعمدة التحالف الحكومي القائم برئاسة المستشار سباستيان كورتس الذي يتبنى منذ كان وزيراً للداخلية في الحكومة السابقة مواقف رافضة لسياسة الباب المفتوح أمام المهاجرين واللاجئين التي انتهجتها المستشارة الألمانية أنغيلا مركل خلال السنوات الثلاث الأخيرة. قرار الحكومة فضلاً عن أنه أغضب تركيا وتنظيم الإخوان الدولي، أحدث أيضاً صدعاً داخل الهيئة الدينية حيث طالب قياديون فيها بإقالة رئيسها إبراهيم أولغون، بعدما اتهموه بأنه من طالب السلطات النمسوية بأغلاق المساجد وطرد الأئمة. تتهم النمسا التي أعلنت حكومتها حرباً قانونية ضد هذه المساجد بأنها «راديكالية متطرفة ترفض الاندماج، وتعمل على خلق مجتمعات موازية لا مكان لها في النمسا». وقال كورتس: «إن النمسا لن تسمح بنشر الإسلام السياسي، كما لن تسمح بخرق القوانين»، في إشارة إلى قانون الإسلام الجديد لعام 2015 الذي تعد قرارات طرد الأئمة وإغلاق المساجد أول تطبيق فعلي لبنوده التي أثارت جدلاً واسعاً في أوساط الجالية الإسلامية في البلاد. ويلزم هذا القانون كل المراكز الإسلامية وغير الإسلامية بالشفافية وعدم تلقي الأموال من الخارج إلا في إطار القانون النمسوي. ونقلت شبكة» يورونيوز» عن مدير مركز بروكسيل الدولي للبحوث وحقوق الإنسان رمضان أبو جزر قوله: «إن تبعية هذه المساجد لتركيا في شكل مباشر، ومبايعتها لسياسة أردوغان وتحديها للقوانين النمسوية سرعا في تفعيل القانون وتطبيقه». وقال: «إن تحقيقات الشرطة توصلت إلى أن هناك مسجدين على الأقل تسلمت إدارتهما أموالاً من تركيا بطرق غير قانونية». كشفت التحقيقات والتحريات التي قامت بها أجهزة الاستخبارات والأمن النمسوية واستمرت لنحو أربع سنوات بأن المساجد التابعة لـ (الاتحاد الإسلامي التركي للتعاون الثقافي والاجتماعي) في النمسا (أتيب) يستخدمها أردوغان ويوظفها لأجنداته الظاهرة والخفية ما يستلزم إغلاقها، وأشارت إلى وجود مسجد في العاصمة فيينا تديره منظمة (الذئاب الرمادية) السرية اليمنية المتطرفة التي لديها ارتباطات مع الحركة القومية بزعامة حليف أردوغان دولت بهجلي. يعتبر قانون الإسلام الجديد لعام 2015 في النمسا امتداداً لأقدم قانون في أوروبا يعود إلى عام 1912، وتعرض منذ ذلك الحين وحتى الآن لتعديلات كثيرة. ويرى الخبير القانوني وقضايا الإسلام ماتياس رويه في حوار مع وكالة دويتشه فيلله الألمانية «أن النموذج النمسوي فريد وتاريخي». ويقول: «امتلكت النمسا قبل 100 سنة مجتمعاً مسلماً ضخماً في البوسنة والهرسك التي كانت تحت إدارة ووصاية فيينا منذ عام 1878». وكان إمبراطور النمسا– المجر آنذاك فرانز جوزيف الأول أعلن «أن كل أبناء هذه البلاد يمتلكون حقوقاً متساوية أمام القانون الذي يدافع عن حياتهم وممتلكاتهم ومعتقداتهم. وقال رويه: «في تلك الفترة كانت جميع الكنائس والجماعات الدينية متساوية في الحقوق». إسلام بطابع أوروبي في عام 2014 أصدرت الحكومة قانوناً جديداً للإسلام. وكان المستشار الحالي كورتس حينذاك وزيراً للداخلية، وبعد عام على صدوره دخل القانون حيز التنفيذ. وينص القانون على «إسلام بطابع نمسوي»، ويهدف إلى قطع الطريق أمام نشر التشدد والتطرف في أوساط الجالية المسلمة في البلاد، ومنع التمويلات الخارجية للمراكز والمؤسسات الدينية. وقال كورتس: إن الشخص يمكن أن يكون في الوقت نفسه مسلماً مؤمناً، وفخوراً بهويته النمسوية». وأكد «أن قوانين الدولة فوق الشرائع الدينية». وبرأي الخبير في قانون الأديان المقارن، ومدير معهد الفلسفة القانونية بجامعة فينيا ريشارد بوتس في مقابلة مع وكالة (دويتشه فيلله) أن «قانون عام 2012 كان بدائياً، لأنه ساوى بين المسلمين واتباع الطوائف الدينية الأخرى في مملكة الدانوب من دون أن توجد للمسلمين مؤسسة تعمل كمظلة لهم، فضلاً عن أن عدد المسلمين آنذاك كان قليلاً». ويصل عدد المسلمين في النمسا الآن إلى نحو 700 ألف نسمة، بينهم 360 ألف من أصول تركية، 117 ألفاً منهم يحملون الجنسية التركية. ويشكل المسلمون نسبة 6 في المئة من عدد السكان الإجمالي في البلاد. الشعبوي شتراخه والإسلام السياسي وجد نائب المستشار الألماني هاينز كريستيان شتراخه الذي يعتبر «أن الإسلام لا ينتمي إلى النمسا»، والذي كانت صحيفة «نيويورك تايمز» وضعت صورته في صدر صفحتها الأولى كأهم الزعماء اليمينيين الشعبويين في أوروبا، في قيام روضة أطفال تمولها تركيا في الأول من حزيران ( يونيو)، وفي تقديم مسرحية داخل المسجد تموله أيضاً تركيا تمثل مشاهد من معركة غاليبولي أو حملة الدردنيل في الحرب العالمية الأولى، التي شنتها قوات بريطانية وفرنسية مشتركة لاحتلال العاصمة العثمانية وكسبتها الامبراطورية العثمانية، فرصة مثلى للانقضاض على جماعات الإسلام السياسي وفي مقدمها الإخوان المسلمين ومراكزها الدينية ومساجدها التي تتلقى تمويلات ودعم سياسي من أنقرة وقطر. كانت أسبوعية «فالتر» الصادرة في فيينا بعثت صحافياً تسلل وصوّر الحدث الذي ظهر فيها صبيان في زي عسكري يؤدون التحية العسكرية وهم يقفون في طابور ويلوحون بأعلام تركية. وفي صورة ثانية يتمدد بعض الأطفال أرضاً حيث يمثلون دور ضحايا المعركة وقد لفوا أجسامهم بالعلم التركي. وتعد هذه المعركة رمزاً للمقاومة التي تكللت بتأسيس الجمهورية التركية الحديثة في عام 1923. ويدير المسجد المعني الاتحاد الإسلامي التركي في النمسا والمرتبط في شكل مباشر بالهيئة التركية للشؤون الدينية. هذا الحدث بعد اكتشافه أثار غضباً عارماً في الأوساط السياسية والاجتماعية النمسوية، ودفع وزارة الداخلية إلى التحقيق مع مدراء هذه الروضة وقادة الاتحاد الإسلامي بتهم تسييس المراكز الدينية وشحن عقول الأطفال بالكراهية الدينية والعرقية، وهو ما نفاه الناطق الرسمي باسم الاتحاد ياسر أرسوي في حديث مع إذاعة «أو آر أف» الرسمية، مشيراً إلى أن المساجد لم تشهد أي دعاية انتخابية لمصلحة أردوغان وأي من المرشحين الآخرين، ولكنه أقر بأن تدريب الأئمة يتم في تركيا التي تمول المساجد وتدفع رواتب الأئمة، ملقياً اللوم على الحكومة النمسوية التي لم توفر أي أموال للتدريب وتعليم اللغة الألمانية للأئمة». تجددت الحملة التي كان أطلقها المستشار كورتس عندما كان وزيراً للداخلية في عام 2015 لإغلاق المدارس ورياض الأطفال الإسلامية في البلاد، والتي اعتبرها «عبئاً على دافعي الضرائب، وتسهم في انعزال لغوي وثقافي». وأضاف: «إذا تعلم آلاف الأطفال في هذه المدارس والرياض، ونشأوا فقط في جو إسلامي، فإن ذلك يضر بالاندماج ويخلق مجتمعات موازية». ويتجاوز عدد هذه الرياض 150 في فيينا والمدن الأخرى. في السياق دعا شتراخه إلى حظر رموز ما وصفه بـ «الإسلام الفاشي»، منبهاً إلى «أن الإسلام يمثل تهديداً وجودياً لأوروبا»، وقال: «دعونا نضع نهاية لسياسة الأسلمة، وإلا نحن النمسويين والأوروبيين سنجد أنفسنا قد قضي علينا فجأة». ارتبط شتراخه في سنوات شبابه المبكرة بمنظمات للنازيين الجدد واليمينيين المتطرفين في بلده النمسا وفي ألمانيا، مما عرّضه للاعتقال على يد الشرطة الألمانية لفترات قصيرة. وبعد الكشف عن صور له مع قادة بارزين باليمين المتطرف، توقف شتراخه عن نفي علاقته أيام شبابه مع النازيين الجدد، معتبراً أن ذلك كان بمثابة «خطيئة شاب غبي ومعتوه»، ومؤكداً أنه أصبح ديموقراطياً حقيقياً ولا علاقة له بالأيديولوجية النازية. وعلى رغم نأي السياسي اليميني النمسوي مرات عدة بنفسه عن ماضيه النازي، فإن خبراء بدراسات اليمين المتطرف اعتبروا مواقفه وتوجهات حزبه حالياً كافية لتصنيفهما في عداد اليمين المتطرف. وانضم شتراخه عام 1991 بسن الحادية والعشرين إلى عضوية حزب الحرية اليميني المتطرف الذي تأسس في خمسينات القرن الماضي كتجمع سياسي لبقايا النازيين، وتولى يورغ هايدر- زعيم الحزب وأبو اليمين المتطرف في النمسا وأوروبا حينذاك- توجيه العضو الشاب الجديد. وفي عام 2005 تولى شتراخه رئاسة حزب الحرية بعد أن خرج منه زعيمه التاريخي هايدر إثر خلاف عاصف. وعمل شتراخه على جمع شتات الحزب الممزق، مستخدماً وصفة حققت لهما مزيداً من الشعبية والانتشار، هي المزج بين الصور العدائية للإسلام والأجانب والاستفزاز. وفي آذار (مارس) 2017 أعيد انتخابه على رأس الحزب بنسبة تزيد على 98 في المئة، وقاده للحصول على نسبة مرتفعة من أصوات المقترعين (أكثر من 26 في المئة) في الانتخابات التي أجريت خريف العام نفسه. وحصل حزبه على 47 في المئة من أصوات الناخبين. حظر الإسلام السياسي تعتزم الحكومة النمسوية إصدار قانون لحظر الإسلام السياسي في البلاد، وقال شتراخه: «إن الإسلام السياسي يستخدم الدين وأماكن العبادة لأغراض سياسية»، وحظر ارتداء التلميذات في رياض الأطفال والمدارس الحجاب والرموز الدينية. وقال: «نحن لا نزال في البداية». وشرعت السلطات الأمنية بتشديد الرقابة على المساجد التي يبلغ عددها 260 مسجداً والمدارس ورياض الأطفال والمراكز والمؤسسات الإسلامية المختلفة، ومتابعة الالتزام ببنود قانون الإسلام الجديد الذي ينص على اعتماد ترجمة محددة للقرآن بالألمانية معتمدة رسمياً، ومنع جميع الكيانات غير المرخصة رسمياً، وحظر تعليم الإسلام إلا من قبل المؤسسات المعترف بها من الحكومة. ورأى مراقبون في هذه الإجراءات تعبيراً عن السياسة الحكومية الجديدة الرامية إلى تقوية وضع الدولة بمواجهة تيارات وتوجهات متطرفة وعلاقات مشبوهة مع حكومات أجنبية داخل الهيئات الدينية الإسلامية، وتقوية الجماعات الإسلامية المستقلة المتعاونة مع الدولة الرافضة للتطرف والتشدد الديني وتسييس الدين واستخدام المسلمين لأهداف سياسية خارجية. الإخوان في النمسا يوثق تقرير جديد أعدته الاستخبارات النمسوية بتكليف من وزارة الخارجية بدعم من صندوق التكامل النمسوي والمكتب الفيديرالي لحماية الدستور ومكافحة الإرهاب، كيفية استغلال جماعة الإخوان المسلمين في النمسا أموال الحكومة ومدارسها لنشر التطرف في صفوف الجاليات الإسلامية المحلية واستخدام الأراضي النمسوية كقاعدة انطلاق لنشاطات الإخوان في البلدان العربية. كانت النمسا ساحة مفتوحة لنشاطات الجماعة مع وصول أحد أبرز نشطائها يوسف ندا قبل خمسين عاماً إلى مدينة غراتس النمسوية كما يشير التقرير المكون من 60 صفحة الذي يقسم أعضاء الجماعة بالنسبة لاستخدامهم النمسا إلى نوعين: الأول يعتبر النمسا بيتاً آمناً ونقطة انطلاق إلى بلدانهم الأصلية، ويمثله أيمن علي الذي عمل لعدة أعوام كبير أئمة في غراتس، ثم عاد إلى موطنه مصر ليتولى منصب كبير مستشاري الرئيس المخلوع محمد مرسي، والثاني عمل من أجل تحويل الثقافة الدينية– السياسية في النمسا هدفاً في حد ذاته، ووصول بعضهم إلى مناصب متحدثين رسميين بين الحكومة النمسوية ومواطنيها المسلمين. ويشير التقرير إلى «أن معلمي المدارس التابعة للإخوان الذين يحصلون على رواتب من الحكومة النمسوية أفسدوا عقول الأطفال وشحنوا النقاش العام بخطاب شوفيني». في دراسته عن الإخوان المسلمين في النمسا يقول الباحث الإيطالي المتخصص في الحركات الإسلامية والعنف السياسي لورينزو فيدينو إن «الإخوان يلعبون دوراً كبيراً في تقوية الإسلام في المجتمع النمسوي ويستخدمونه لأهداف سياسية من خلال استخدامهم لثنائية الضحية والعنف، القضية التي تخلق بيئة خصبة للتطرف». وقال: «إن كيانات الإخوان في النمسا وأوروبا ككل تسعى لتكريس فكرة أن الغرب في حالة عداء للإسلام والمسلمين، وهو ما كان واضحاً إلى حد كبير في النمسا». تؤثر جماعة الإخوان المسلمين على المجتمع النمسوي وتماسكه من خلال الترويج بأن المجتمعات الغربية فاسدة وغير أخلاقية بحسب ما رأه فيدينو الذي أشار إلى «أن الصلات التنظيمية والمالية والفكرية تتداخل وتتقاطع بين أفراد ومنظمات جماعة الإخوان في النمسا والتي يعمل كثير منها تحت أسماء متعددة لا تحمل اسم الجماعة ولا تسير وفقاً لهياكلها التنظيمية». وتضمنت دراسة فيدينيو ما وصفه مقاطع من وثائق خاصة بالاستخبارات النمساوية تقول: «إن جماعة الإخوان لا تحتفظ بسجلات بأسماء أعضائها، وأن هؤلاء يعملون سراً في جميع أنحاء البلاد لتجنب الرصد والملاحقة من قبل السلطات الأمنية». وبحسب الوثائق فأن» المواقف الأساسية للجماعة تتعارض وتتصادم مع الأنماط الاجتماعية والنظام الدستوري في النمسا».
مشاركة :