دائما ما يبزغ السؤال الأزلي: هل تعاسة طفولة الكاتب وشعوره بالحرمان والأمان هي وقود الإبداع، أو الرماد الذي يتحول لاحقًا إلى أشجار. لو نظرنا في سيرة معظم الكتَاب المعروفين لرأينا انهم عاشوا حياة غير سعيدة، ماديًا أو اجتماعيًا أو عاطفيًا. نحن هنا اليوم أمام الكاتب الفرنسي المعروف أونوريه بلزاك، رائد الرواية الفرنسية، الذي يعتبر مع فولبير مؤسسا الواقعية في الأدب الأوربي. ولد أونوريه دي بلزاك في مايو 1799م وعاش حياة قاسية بسبب امه التي كانت امرأة فظة وقاسية مع أبنائها. عانى بلزاك طويلاً من الأزمات المادية حتى أنه كان يختبئ من دائنيه بسبب فقره. هذا الحرمان العاطفي والحياتي جعله يؤلف أكثر من 90 رواية وقصة قصيرة وكان يتطلع إلى أن يكون في قمة قائمة الأدباء في أوروبا ويخلف بيرون ووالتر سكوت وهوفمان وتمكن في الواقع أن يفوقهم ابداعًا. حين يقولون أن الكتابة هي طريق الجنون أو الجنون طريق الكتابة ربما يكون قولاً صحيحًا وهكذا كان الحال مع بلزاك حينما وجد نفسه يعاني من صعوبات عقلية دفعته إلى الانقطاع عن دراسته الثانوية، إلا انه عاد لمقاعد الدارسة بعد عدة سنوات، وهو يحمل معه تباشير ملكته الأدبية. وبدأ في سن العشرين يكتب مع بعض اصدقائه قصصًا بأسماء مستعارة. ونظرًا إلى إنتاجه الغزير توقّع له أدباء عصره أحد أمرين: أما أنه رجل مجنون به مس من الشيطان، وأما موهبة أدبية عبقرية تتقمصه وتدفعه إلى هذه الغزارة في الإنتاج، وكان الاحتمال الأخير صحيحا تمامًا. بلغ بلزاك الثلاثين من عمره ولم يخرج عملاً أدبيًا ذا قيمة إلى أن أصدر أول قصة طويلة له (التعويذة) التي أُعتبرت فتحًا جديدًا في عالم فن القصة من حيث دقة الوصف والتحليل العميق. ومنذ ذلك الوقت وضع بلزاك توجهًا واضحًا لموضوعات قصصه وهو أن يركز على التناقضات السائدة في المجتمع. ومنذ ذلك الحين أمطر هذا الكاتب الفذ العالم بعشرات الروايات الممتعة والمفيدة ومن أشهرها «جلد الأسى»، «الكوميديا الإنسانية»، «الزنبقة في الوادي»، «الجلد المسحور»، «الناعقون»، «الأب غوريو»، امرأة في الثلاثين»، «النسيبة بِت»، «اوهام ضائعة»، «الجنية الأخيرة» وغيرها من الروايات والقصص التي أثرت المكتبة العالمية. بلغ بلزاك سن الثالثة والعشرين ولم يعرف شيئًا عن العلاقات النسائية بسبب خجله المفرط واهماله لشكله وهندامه وبدانته مما ادى إلى عدم انجذاب الجنس الآخر اليه وخصوصًا أنه كان شخصا انطوائيًا. استمر كذلك حتى اليوم الذي قابل فيه صديقة العائلة مدام دوبيرني، وكانت زوجة لمستشار في البلاط الملكي وتبلغ من العمر الخامسة والأربعين بينما هو في الثالثة والعشرين، فأسره جمالها وفتنتها وبدأ يطاردها برسائله الرومانسية الساخنة، كانت متمنعة في البداية ولكنها استسلمت في النهاية. ويصف ليلة موعده الأول معها (الليلة الصاخبة الممتلئة باللذة، تلك الليلة لا يستطيع التمتع بها إلا مرة واحدة ذلك الطفل الذي بلغ مرحلة الرجولة والتي يسعد بها عندما يصادفها لأول مرة في حياته). ووصف علاقته بها: (ليس إلا الحب الأخير للمرأة الذي يستطيع أن يرضي الحب الأول للرجل). ربما كان الاختلاف الكبير في العمر تعويضًا له عن حنان الأم الذي افتقده دائمًا بسبب فظاظة والدته وربما ايضا ساعدته تلك العلاقة على التغلب على سذاجته العاطفية وعلى خجله المفرط مع امرأة ناضجة ذا خبرة. كانت مدام دوبيرني بمثابة حبه الأول، وجاءت إلى حياته في وقت بلغ به اليأس الا أن يضع نهاية لحياته للتخلص من عذاباته. بعد ذلك تعرّف بلزاك على سيدة روسية ثرية هي مدام دوهانسكا معتزة بأصلها الأرستقراطي مصرة على أن تجعل صداقتها له نوعًا من الإرضاء لغرورها البرجوازي وخاصة أن بلزاك كان ضعيفًا مع النساء، والشعور بالنقص تجاه كل سيدة رفيعة المقام، مما جعله يفكر في الزواج من مدام دوهانسكا ليحظى بالجاه والمال ويتفرغ لإتمام رسالته الأدبية. انتظر بلزاك حتى توفى زوجها فعرض عليها الزواج لكنها كانت كثيرة التسويف ولكن دون أن تقطع علاقتها بهذا الكاتب العظيم طمعًا في سحر مكانته وهالته في المجتمع. كانت صحة بلزاك تسوء حيث أجمع الأطباء على أن قلبه لا يسمح له بحياة طويلة، وعلى اثر ذلك وافقت مدام دوهانسكا على أن تحقق امنية هذا الرجل الذي ارتمى تحت قدميها ليحظى بها وتقترن به في النهاية. كان عشق بلزاك للكتابة جنونيًا إذ كان يقضي في كثير من الأحيان أسبوعين أو أكثر لا يغادر شقته الصغيرة حيث كان يبدأ الكتابة عند منتصف الليل ثم يصحو مبكرًا لتصحيح البروفات التي ترسلها إليه المطبعة وذكر طبيبه أن سبب موته المبكر وهو يبلغ 51 عامًا يرجع إلى أن قلبه كان متعبًا بسبب الإرهاق في العمل والمبالغة في شرب القهوة ليستعين بها على مقاومة النوم.
مشاركة :