على رغم الجدل الذي أثارته بعض الدوائر الإعلامية والأوساط السياسية داخل الولايات المتحدة بغرض تقويض المغانم الاستراتيجية الروسية من وراء قمة هلسنكي، فإن القمة نفسها سلطت الضوء على أهمية أمن الطاقة في التنافس الأميركي – الروسي. فمن جانبه، لم يدخر الرئيس الأميركي دونالد ترامب وسعاً في استباق قمتي الناتو وهلسنكي بتوجيه الانتقادات لألمانيا، صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في الحلف الأطلسي، بجريرة اعتمادها على الغاز الروسي، ورفضها الوفاء بالتزاماتها المالية في ما يخص الإنفاق الدفاعي للحلف، الذي يحمي أوروبا من التهديدات الروسية. وانتقد ترامب إغلاق ألمانيا محطات كهرباء تعمل بالفحم والطاقة النووية لاعتبارات بيئية بما يعزز اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية، إذ تستورد ما يناهز 35 في المئة من احتياجاتها النفطية والغازية من روسيا. وفيما يلقى مشروع «نورد استريم 2» معارضة دول أوروبية عدة، في مقدمها أوكرانيا التي تتخوف من فقدان إيرادات مرور خط الغاز الروسي الجديد عبر أراضيها، تعتبر الولايات المتحدة، التي تسعى إلى تسويق غازها ونفطها عالمياً وفي أوروبا على وجه التحديد، هذا المشروع بمثابة تهديد لاستقلالية واشنطن وحلفائها الأوروبيين في ما يتصل بأمن الطاقة. يتملك واشنطن قلق بالغ من نجاح موسكو، التي برعت في استثمار مقدراتها من مصادر الطاقة الممثلة في امتلاك 6 في المئة من احتياطي النفط العالمي ونحو 34 في المئة من الغاز الطبيعي وما يقرب من 18 في المئة من احتياطي الفحم الحجري، في تأكيد حضورها الجيواستراتيجي أوروبياً وعالمياً واستعادة نفوذها الجيو اقتصادي العالمي عبر شركاتها المتخصصة في مجال الطاقة والبتروكيماويات، إذ تستورد دول الاتحاد الأوروبي ما يربو على 82 في المئة من النفط و57 في المئة من الغاز الطبيعي، فيما يتوقع استمرار اعتماد غالبية دول الاتحاد الأوروبي على روسيا كمورد وحيد لمصادر الطاقة. كذلك، تتعاظم المخاوف الأميركية جراء تنامي احتمالات امتداد مشاريع الغاز الروسية لتشمل القوى الاقتصادية الصاعدة حول العالم، بعدما بدأت اليابان منذ العام 2016 في تلقي شحنات الغاز الروسية عبر مشروعي ساخالين 1، وساخالين 2، حيث أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن 70 في المئة من الغاز الطبيعي المسال، الذي يتم إنتاجه في جزيرة ساخالين الروسية، يذهب إلى السوق اليابانية عبر هذين الخطين، اللذين تم الاتفاق بين موسكو وطوكيو بشأن مدهما إلى اليابان عبر جزيرة ساخالين، بطول 1350 كيلومتراً ليمد اليابان بالغاز انطلاقاً من فلاديفوستوك الروسية حتى مقاطعة إيباراكي شمال شرق طوكيو. وهو المشروع الذي يعتبره اليابانيون فرصة لدعم استراتيجية النمو الاقتصادي وخطط إعادة بناء منظومة الطاقة في بلادهم، علاوة على إعادة إعمار المناطق المتضررة من الكوارث الطبيعية. من هذا المنطلق، جاءت معارضة واشنطن الشديدة لمشاريع الطاقة الروسية الاستراتيجية الضخمة كمشروعي «السيل الأزرق»، عبر تركيا، وخط «نورد ستريم 2» عبر ألمانيا، حيث قامت واشنطن بممارسة ضغوط ديبلوماسية على دول البلقان عموماً واليونان بخاصة، بغية الحيلولة دون تنفيذ تلك المشاريع. كذلك، جاءت المحاولات الأميركية لاستمالة الجزائر توطئة للاتفاق معها بشأن تزويد دول أوروبية بالغاز، في محاولة لكسر احتكار شركات الطاقة الروسية. بالتوازي، تدعم واشنطن توجهاً أوروبياً متنامياً لتنويع مصادر الطاقة والتخلص من التبعية لروسيا في هذا الصدد؛ عبر تبني سياسات جديدة، كمد خط أنابيب لنقل إمدادات النفط من بحر قزوين إلى أوروبا عبر تركيا، علاوة على ترشيد الاستهلاك المتزايد للطاقة في الدول الأوروبية، بما يوفر نحو 100 بليون يورو، فضلاً عن اعتماد استراتيجية تفاوضية موحدة باسم دول الاتحاد مع موردي الطاقة العالميين وتقديم طلب أوروبي واحد للاستيراد بدلاً من قيام كل دولة أوروبية بإجراء مفاوضات منفردة مع أولئك الموردين حول الأسعار والكميات المرجو استيرادها. توخياً منها لتعزيز الأبعاد الجيو اقتصادية للهيمنة الأميركية العالمية من منظور أمن الطاقة خلال المرحلة المقبلة، أكدت إدارة الرئيس ترامب رغبتها في إضفاء حالة من العدالة والتوازن على سوق الطاقة العالمي، وتقليص ما أطلقت عليه القوة التي تشوه تلك السوق كروسيا ومنظمة أوبك، عبر عرض تصدير الغاز الأميركي لأوروبا وآسيا، فضلاً عن ضخ المزيد من النفط الأميركي في السوق العالمي بعد التوسع في مشاريع التنقيب عن النفط والغاز على امتداد السواحل الأميركية التي تختزن 98 في المئة من موارد النفط والغاز غير المستغلة. فضلاً عن تطوير الموانئ والبنى التحتية اللازمة لعمليات الإنتاج والتصدير في مجال الطاقة. ويبدو أن تلك التحركات بدأت تؤتي أكلها، إذ أعلنت إدارة معلومات الطاقة الأميركية قبل أيام ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة من النفط الخام إلى 11 مليون برميل يومياً. وزادت مخزونات النفط الخام الأميركي بواقع 5.8 مليون برميل في الأسبوع المنتهي في 13 تموز (يوليو) الجاري، الأمر الذي من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة ثاني أكبر منتج للنفط الخام في العالم بفارق بسيط بعد روسيا. بموازاة ذلك، تخطط الولايات المتحدة للتربع على عرش الغاز العالمي بحلول العام 2024، عبر رفع حصتها في تصدير الغاز المسال إلى 300 مليون طن سنوياً، حيث تمكنت، بالتعاون مع حلفاء دوليين كشركة «أرامكو»، من فتح أسواق جديدة حول العالم والتصدير إلى الصين واليابان وأوروبا خلال العامين الماضيين. ولتعظيم فرصها في هذا المضمار،عمدت واشنطن إلى ممارسة الضغوط على حلفائها من كبار مصدري الغاز المسال عالميا كقطر، من أجل زيادة إنتاجها من 77 مليون طن إلى 100 مليون طن سنوياً بما يوفر بديلاً لإمدادات الغاز الروسية إلى أوروبا، فيما تحاول إقناع تركيا بمنع روسيا من استخدام أراضيها لتوصيل الغاز والنفط إلى القارة الأوروبية. وتحرص واشنطن على استثمار بعض المعطيات والعوامل المساعدة من قبيل تعاظم الطلب الدولي على الغاز لأغراض الصناعة والتدفئة، والتنسيق مع دول الناتو لتزويدها بمصادر الطاقة الأميركية خصوصاً مع طرح مبادرة «شينغن» عسكرية تتيح سرعة نقل ونشر وتموضع القوات العسكرية بين دول الحلف، بما يساعد على محاصرة النفوذ الجيو اقتصادي لروسيا أوروبياً. كما تسعى واشنطن للاستفادة من انتهاء غالبية العقود طويلة الأجل لتوريد الغاز الطبيعي المسال بين روسيا والأوروبيين، في وقت تتنامى الإمدادات الأميركية من الغاز مع زيادة الطلب في أوروبا وآسيا، فيما تتفاقم أجواء التوتر الجيوسياسي المحيطة بأكبر موردي الغاز على مستوى العالم وهما قطر وروسيا. ولم تفض الزيادة في إنتاج أميركا النفطي إلى استغنائها عن استيراد النفط لتظل أكبر مستهلك له عالمياً، بعدما قفزت وارداتها من 2.2 مليون برميل إلى نحو تسعة ملايين برميل يومياً. إلا أن واشنطن بدأت في توريد الغاز المسال إلى أوروبا في صيف العام الماضي، حيث كانت بولندا هي أول جمهورية سوفياتية سابقة في أوروبا تتلقى شحنات الغاز الأميركي في آب (أغسطس) الماضي. وبعدها بشهر واحد أفادت الناطقة باسم الخارجية الأميركية، هيذر نويرت، أن بلادها ورَّدت للمرة الأولى غازاً مسالاً إلى دولة سوفياتية سابقة هي ليتوانيا، كخطوة تالية باتجاه السيطرة على السوق الأوروبية بالخام الذي بات متوفراً في أميركا بفضل ابتكار طرق استخراج ناجزة. وانطلاقاً من إدراكها أهمية أمن الطاقة في التنافس الاستراتيجي المحتدم مع موسكو مستقبلاً، تراهن إدارة ترامب على أن يفضي إجبار روسيا على المنافسة في أسواق الغاز الأوروبية والدولية الأكثر تنافسية عبر إتاحة مصادر بديلة ومتنوعة للطاقة أمام المستهلك الأوروبي والعالمي، إلى تقويض النفوذ الجيو- سياسي الروسي الذي يتغلغل على نحو متسارع عالمياً وداخل القارة العجوز، مقابل إفساح المجال لنظيره الأميركي الآخذ في التصاعد.
مشاركة :