"يحلم الشاعر بتكوين بشرية جديدة لا بكتابة شيء جديد فقط.. الكتابة هي الجسد الجديد"، هكذا كان يحلم أنسي الحاج الذي تمر اليوم ذكرى مولده حيث ولد في 27 يوليو 1937، وفارق الحياة في 18 فبراير 2014.ليس من السهولة بحال الكتابة عن شاعر بحجم الحلم، شاعر يعري اللغة، ويجردها من كل غاياتها التي نعرفها، يدخلها ونحن معها في غابات جديدة تتميز ببكارتها وكأنها لم تخطوا على حروفها قدم، إنه أنسي الحاج الشاعر اللبناني الذي يقول عنه الناقد العراقي عبد القادر الجنابي في كتابه "أنسي الحاج.. من قصيدة النثر إلى شقائق النثر": إن الرسالة التحررية لشعر أنسي الحاج الخالي من أي تلميح أيديولوجي، تكمن، من جهة، في أنه وضع توجهًا شعريًا كلاسيكي المنحى كان سائدًا، على الرف، مرة وإلى الأبد". ويضيف الجنابي، من الجهة الأخرى، في قدرته على زج اللغة الشعرية في معمعان التجريب الطليعي بنقل القصيدة من نطاق الدمدمة في الأذن إلى صور تسمعها العين، من قاموس الكلمات المزوقة وذات الوقع الرومانسي المستهلك، إلى معجم الكلمات الحيوية الصادمة، الخشنة لكنها معبرة بدقة عن ثيمة الموضوع بحيث تضفي للقصيدة وهجها، ذلك أن "الشعر يعيش في لغته… الشعر ليس في تقنياته التي ألصقَت به لتمييزه عن النثر مثلا.. وإنما هو في وظيفة ممارسته الإيمانية بوجودِ "عالم خفي" نحسه لكن لا نراه. وهنا يكمن البعد الروحي للشعر.. فاللغة في أشعار أنسي الحاج، تسيل وكأنها كلام وليست كتابا، كلام خال من كل الصور المجازية المفتعلة، لا يعيقه أي سد جمالي، أخلاقي أو مذهبي.. يتدفق، يتقطع وكأنه بورتريهات الفكر وهو يتقطر.ويؤكد النقاد العرب أن أنسي الحاج لم يكن من الرواد الأساسيين العرب لقصيدة النثر، فقط، بل كان أول شاعر عربي يصدر ديوانا (عام 1960) يجرؤ على التعريف به على أنه "ديوان نثر"، وهو لا يزال في الثالثة والعشرين. وتضمن ديوانه هذا الذي حمل اسم "لن" وصار أشهر من نار على علم، المقدمة الشهيرة التي تحولت إلى بيان حول قصيدة النثر، ورؤيته لها ومعايشته لها.. هذا مع أن شعراء عرب كانوا قد كتبوا قصيدة النثر قبله ونشروها.وحين سئل أنسي الحاج عن هذا الأمر في إحدى مقابلاته الصحفية قال: "أدونيس هو المنظر الأول لقصيدة النثر في اللغة العربية، ومجموعة الماغوط، "حزن في ضوء قمر" صدرت قبل (لن) بعام كامل.لكن (لن) هي أول مجموعة ضمت قصائد نثر عرفت عن نفسها علنا بهذا الاسم، وبشكل هجومي، ورافقتها مقدمة جاءت بمثابة بيان".. وهو ما فتح بابًا واسعًا للنقاش والنزال في الساحة الشعرية العربية.ومما كتبه أنسي الحاج في بيانه يومها "شاعر قصيدة النثر، شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنسانا حرا، أيضًا تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشويش والنظام معا.. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي".وبقي أنسي الحاج أمينًا في سلوكه، لما كتبه يومها، لتلك الحرية التي ربطها بالكتابة، لذلك النبض المتفلت من القيود والصور الجاهزة، والقوالب المسبوقة. إنه بحق "الشاعر الملعون" و"المتمرد" كما وصف نفسه، لكنه أيضًا الشاعر "الجريء"، "الغازي" صاحب الفتوحات اللغوية والتعبيرية. هكذا كان في "زمن السرطان" حيث "الفن إما أن يجاري الموت أو يموت".تنوعت أدوار وشخوص وأقنعة أنسي الحاج، حيث تتجاور المتناقضات وتتشابك في مفرداته، فيجمع بين الموسيقى الجوانية والداخلية والحرائق، بين الفوضوى والرجعي، بين شيطان مؤمن وملاك كافر، بين نقاء مبعثر وتناثر متجاوز، بين صلاة الناسك وخطيئة منتهك اللغة، بين ازدراء الاندهاش وتمجيد الفجيعة، بين الحنان وعنف الحنان، بين التعالي والشقاء الأمومي، بين الضعف والقوة، بين المحكوم بالإعدام وحبل المشنقة، بين الرسولة والرأس المقطوع، بين صراع غريزتي الموت والحياة، بين الشاعر المسيحي والمسيحي الشاعر، بين الارستوقراطي والمتوتر الدائم، بين الشاعر الملعون بوجدانه والشاعر المرفه في مكانه، بين خراب اللغة وخلقها، بين اللغة واللا لغة، بين تجديد اللغة العربية والضغينة على التراث العربي البالي، بين الأدب وضد الأدب "اللا أدب"، بين حرية الكلمة ومروق القصيدة، بين معاداة التراث العربي وعبادة التراث الأوروبي، بين احتقار المتنبي وأحمد شوقي والفرح العارم بجاك بريفير وبروتون، بين الملل من جبران والانجذاب لتوتر فؤاد سليمان وتموزه، بين الإنجيل الإيماني والكنسي والحركة السوريالية الملحدة، بين القلق الوجودي والتشبث بالفراغ والعدم.
مشاركة :