أنسي الحاج من قصيدة النثر إلى شقائق النثر

  • 12/2/2014
  • 00:00
  • 20
  • 0
  • 0
news-picture

يقوم شعر أنسي الحاج على كسر البنية الكلاسيكية لمسار الجملة العربية وتركيبتها البلاغية، فاتحاً تنسيقاً جديداً للكلمات من حيث نظام تتابعها النحوي. وكأن اللغة هي التي تحدّد موضوع القصيدة، وليس الموضوع الخارجي هو من يحدّد لغة القصيدة، ومن ثم موضوعها. وتكشف معظم قصائد «لن»، مثلاً، تجاور كلمات توليديّ في نحو الجملة وتركيبها، تتخلّص فيه الكلمات من المعنى المُعطى لها قاموسياً، محدثةً انزياحاً جديداً في الحقل الدلاليّ المطلوب لفهم الجملة: «.. أقرأ. كلّ شيءٍ في الهواء؛ وأنا. رحْ إلى الشطّ أيها الفكر، تحلحل. الحياة ذبابة ذبابة، طاقتي عينان رياضيّتان. أرفض العصر! لا تشدّوني! آخرون آخرون؛ أنا ظلّ، أريد هذا. مرحباً! أنت أيضاً؟ ليس هناك واحد؟» («مجيء النقاب» من «لن»). وفي هذا التركيب النحوي الجديد syntax المضاد للتركيب الكلاسيكي، لا يعود إدخال كلمة عامّيّة، مثلاً، من باب تفضيل على الفصحى، بل من باب مقصودٍ: إحداثُ لبس لغوي يضع مفهوم «التعبير» على المحكّ، سامحاً لكلمة دارجة كـ«تحلحل» أن تكتسب، من خلال وجودها في فضاء الفصحى، معنًى آخرَ أكثر عمقاً، بل معانيَ إذا قمنا بدراسة اشتقاقية. كما أنّه، بنسفه للبلاغة بكل محاسنها اللفظية، يأخذنا إلى ما وراء البرزخ القائم بين الفصحى والعاميّة... إلى أبواب شِعرٍدُنيويّ، بين كلماته تحالفٌ غير مُتَوقَّع. كما لا يبقى (كنتيجة شعرية لهذا الكسر الذي اجترحه الحاج آنذاك، في نحو الجملة وتركيبها) إمكانٌ يُصبح فيه شعرُ أنسي الحاج إيقاعَ قضيةٍ آيديولوجية مهما كانت نبيلةً وثوريةً وعادلةً، بل كان دائماً يتعدّاها. وبالفعل، في شعره ليس ثمة قصيدة واحدة تعبّر عن أي قضية ينتظر جمهورٌ تعبيراً شعرياً عنها، بل ليس ثمّة قصيدة واحدة فيها صدى لما يجري من أحداث اجتماعية، سياسية... إلخ، على رغم أنّ معالم الحياة العربية كلَّها كانت تُجبر الشاعر، خصوصاً على أن يجعل شعره صدىً لها، عن بُعد أو عن كثب، عبر رمز تراثيّ، أو تلميح سياسيّ، أو شعار معركة (كم من قصيدة، دوّخ شعراءٌ كبار رؤوسَهم بكتابتها، وفقدت بريقها في ما بعد بسبب إقحامهم فيها ألفاظ الـ«مع» والـ«ضدّ»). شعر أنسي الحاج هو هو وليس عن. ولو تقصّى ناقد، (وأقصد بالناقد الدارس والقارئ الجدّي الذي له، فعلاً، معرفة دقيقة بمصطلحات الشعريّة الحديثة، وهي غربيّة محض)، النتاج الشعري كلّه في خمسينات القرن الماضي وستيناته، لخرج باستنتاج قاطع هو أن «لن» هي المجموعة الشعرية الوحيدة التي ضمّت ما يسمّىالشعر non-référentielle غير الإسنادي أي لا مَرجِعيّ، ليست له صِفةٌ لِما يُشيرُ إلى مَوقعٍ أو عَلاقةٍ مَعروفة. وهذه هي نقطة البدء عينها التي انطلق منها شعراء قصيدة النثر الشباب، فيما بعد، بحيث كلُّ واحدٍ منهم أخذ منها ما يطوّره شعرياً. فاللغة في أشعار أنسي الحاج تسيل وكأنها كلام وليست كتابة.. كلام خالٍ من كل الصور المجازية المفتعلة، لا يعوقه أيّ سد جماليّ، أخلاقي أو مذهبي. يتدفّق، يتقطّع وكأنه بورتريهات الفكر وهو يتقطّر. «قلتُ شُعاع! حَمَلَني وجاوب: ماذا تشتهي؟ وأسرع صبيّ من الصوف يجرُ غيمَ الخُرافات فدعاني ذلك للقول. ولم يُميّزني! فمحوتُ القول قائلاً: لا يكفيني» («أضع ذقني على الدَبْق» في «ماضي الأيّام الآتية»). الحاج لا يعتمد على كلمات الكتابة الفكر كما يتكلّم وليس كما يُكتَتب. الكلامُ، هنا، هو الكتابة. لا يتحول من حال إلى حال. وإلا فإنَّ الكلام يفقد حمولته الإيحائية حين يتحول إلى كتابة. وهذا ما يحصل عندما يحاول كاتبٌ أنْ ينقل كلاماً محكيّاً إلى كلام كتابةٍ، فيتغيّر اللسان، يتحدَّد، وتُستبدل فيه الدقة بالتعبير. لذا أن الأمر مختلف، لدى أنسي الحاج، فهو يعتمد أساساً في كلِّ أعماله، على كلماتِ الكلام وليس على كلمات الكتابة، وهذا غير ممكن إلا بالاستناد إلى أفكار حقيقية صادقة، وكلمات فيها كثيرٌ من الشفّافية والملء، بحيث إنَّ كلَّ كلمة تُصبح عَدَسةً تضبِطُ تَرْكيزَ صوَر الفكر على شبكية الكتابة التي هي ليست سوى شاشة. أفكارٌ هي صادقةٌ وشفافةٌ؛ لأنها، بكل بساطة، تساير حركة الفكر الحقيقية. صدق وشفّافية يعيدان إلى الكلام ألقه، صفاءه، جماليةً، وضوحاً مُكثّفا الذي هو ضوءُ الفكر عينُه: «تتحرّك هذه الأسطر تهتزّ تستهويها المُدُن المُسنّة والأديرة التي تخنقنا فيها امرأة وتلالُ الخجل المتلاعب ورفاقي أُخمّنهم بأناملي فيتسللون كالماء» («السّخرية الوحشية»، في «ماضي الأيام الآتية»). وفي زحمة هذه الآليّة المدروسة باطناً، يتجنب أنسي الحاج الكليشيهات المترسبة في الذاكرة اللغوية كـ«ذات صبح، أو ذات يوم... الخ، ليجعلنا نتأمّل العالمَ شعرياً، قبل أن ننزل السلّم: «وظننت صُبْحَ يوم من الأيّام» («أوراق الخريف مريمُ العذراء»). لغة الشاعر في جسده لا أرى أيَّ شاعرٍ آخرَ من مجموعة مجلة «شعر»، انتبَه، كأنسي الحاج، ومبكراً، إلى ما يميّز الإيقاع العضوي، إيقاع القصيدة الحديثة، عن النغم الموسيقى الكلاسيكي الذي كان يصول فيه أدونيس، مثلاً. إليكم ما صرّح به الحاج في حوار: «الشعر لغةٌ. لغة الشاعر هي، قبل كلّ شيء، «هو» أي دورتُه الدمويّة، أنفاسُه، ضغطُه، سرعةُ نبضه، لغة الشاعر في جسده. إذا كنتُ عدَّيت الفعل اللازم مباشرةً على الضمير فليس لأني تعمّدت الجديد، بل لأنّي «أتكلّم» هكذا» («الفكر» التونسية 1971). وفي الحوار نفسه، أوْضَحَ نقطة جانبيّة، لكنّها مهمّة، ألا وهي: إنّه يفضّل تسمية كتابه الشعري بـ«مجموعة شعرية»؛ لأنه لا يستسيغ كلمة «ديوان» لما يُشمَّ فيها من رائحة القِدَم والكلاسيكية. وهناك، بالفعل، وحدةٌ عضوية في كلِّ مجموعة شعريّة لأنسي الحاج. وهذا واضحٌ من مجموعته الأولى «لن» التي جاءت من دون فهرس للقصائد، كما لو أن المقدمة والقصائد بيان واحد متماسك الأجزاء... يبقى أنّه إذا كانت المقدمة بياناً غير ادّعائي؛ شرحاً طليعياً لضرورة نفَسٍ شعريٍّ معاصر؛ إيقاعٍ ينبع من أعماق الشاعر وليس من بحور مرسومة سلفاً، فإن القصائد هي النماذج/ الهوامش الكبرى لهذا المتن الشعري المتمرد حيث سعيّ حثيث إلى سماء وأرض جديدتين تتغيّر فيهما اللغة من أداةٍ إلى كائنٍ يتنفّس هواءَ عصرِه، لا غبارَ قرون ماضية. لقد كانت حداثة زملائه الشعراء الحديثين حداثة تَواؤُمية حيث لا قطيعة ولا اجتراح، حداثة ضد حداثة تتجنّب الموقف الطليعي من اللغة الذي يستدعي أساليب حسّ حديثة، وتضحية بنحو الجملة؛ ومُعَاصَرةً شعريّة تتحرّر فيها اللغة من مهمة التعبير. وليس غريباً أن اليوت كان هو مرجعهم، بينما كان بروتون مرجع الحاج. وأيضاً، إذا قارنا قصائد «لن» بكلّ النتاج الشعري العربي الحديث لتلك الفترة، لوجدنا أن «لن» جاء بشيء جديد كلياً ألا وهو تحرير الكلمة، من دون الوقوع في لفظية فارغة، من قيود خارجية، أي تحريرها من الشحنات المذهبية (سياسياً، فلسفياً ودينياً) الذي كان ذلك النتاج مبتليّاً بها، على نحو مباشر أو رمزي، فلغة «لن» عارية بلا أقنعة، لا إشارة لأي وحيّ خارج إشعاعاتها: «حلمتاي وَمَثلي الطيِّب. أقول هذا: لولا قوّة فرحكِ لأسرعتُ أقتطع جوعاً أو أملاً. لغوكِ الأشقر ينتظرني عندما تنتابني الوداعة فيعيدني إلى الأصوات البعيدة.» (أسلوب) « الآن تتلولبين فيّ كأنّكِ المجرَّد. أُفكِّركِ! أُفكرك! أدور كوحشٍ سعيد أَبحث عن مركزي خارج فكري، أنتِ! وأُقع، أؤسس لهزيمتي. أيتها العائمة! أيتها الإسفنجة الزهرية! صعَّدتني حُلُمَ العين المغمَصَة، لكني لا أراكِ ورائي!» (الحب والذئب) الجديد لدى أنسي الحاج متعدّدٌ، إذن. فألم يكن، أيضاً، الشاعر الحديث الأول الذي أنقذ شِعرَ الحبّ، في العربية، من الرومانسيات والمجونيات معاً، ليضعه في مقامه الحقيقي الإيروسية المتسامية؟

مشاركة :