على مدى تسعة أيام , كنت أراقب خلالها حصن دماس العملاق صاحب الـ (1000 عام) , والرابض على مرمى البصر من سوق الربوع التاريخي , رأيته وهو يشمخ تارة برأسه للسماء فخرا , وتارة أخرى وهو يتمايل طربا على ايقاعات مهرجان الأطاولة التراثي الرابع . . ثم رأيته في اليوم الأخير من أيام المهرجان وهو يرفع كلتا يديه في تلويحة وداع مؤثرة .. لأكثر من 30 ألفاَ من الزائر المترددين على المهرجان يوميا من الجنسين , ممن حرثت أقدامهم سوق الربوع , وطربت أفئدتهم لما يزيد عن 25 فعالية متنوعة , نثرها المهرجان بين يدي عشاق التراث ومحبي الثقافة والأصالة . . وأزعم - وأنا الذي اقتربت كثيرا من المهرجان وعشت معظم لحظاته ليلة وراء ليلة - أن ما جرى كانت مفاجأة من العيار الثقيل , ليس لي وحسب - كصحفي طاف بمهرجانات كثيرة – ولكن لكل من زار وشاهد واستمتع به . . فقد جاء المهرجان فخما , عميقا , ومثيراً في آن معا .. حيث قدم الأصالة والتراث على طبق "جنوبي" أنيق لكل الزائرين , فاغترفوا منه حتى أرتوت جوانحهم . . صفت نية القائمين على المهرجان , ونظروا لهدف واحد وهو أسعاد الأهالي والمصطافين , بفعاليات حقيقة , خالية من التلوّن والبهرجة , فتحقق لهم ما أرادوا , بل وخطفوا الأضواء بشكل عفوي لا قسري , وتوافدت الحشود على سوق الربوع التاريخي من الجهات الأربع حيث موقع المهرجان . . أحد الذين أعرفهم قال لي - مندهشا - إن ما أراه أمامي هو جنادرية مصغّرة – هذه جنادية الأطاولة – فتبسمنا سويا , ومضينا نجول جنبات المهرجان , بدءاً من قسم الحراثة حيث شاهدنا الثئران تؤدي دورا يحاكي ما كان يفعله أجدادنا في حرث مزارعهم , ثم إلى قسم طحن الحبوب بالرحى , فقسم "الذرا" الذي يكون لفصل الحبوب عن الرفه (التبن) . ثم انتقلنا إلى جناح الفن التشكيلي , والوثائق , والحجج القديمة , فركن الخط العربي , ثم إلى جناح التعليم قديما , وفيه مقررات ومقتنيات دراسة عمرها فوق 55 عاما , ثم شاهدنا ركن الأسر المنتجة وتذوقنا شيئا من المرقوق , وهو طعام شعبي شهي لأهل الجنوب كانت تبعيه سيدات من المجتمع المحلي . . ثم رأينا دكاكين سوق الربوع التاريخي وهي تفتح أبوابها لأول مرة منذ 50 عاما , ورأينا في مكان أخر اكشاك صغيرة ضيقة , أقامها المنظمون مكان دكاكين الحجر القديمة , في محاكاة لما كانت عليه دكاكين الحجر القديمة قبل 50 عاماً . . ورأينا أمامها شاحنات الوجبات السريعة الشهيرة "البيك" , والتي وصلت منطقة الباحة لأول مرة , وكان سوق الربوع هو صاحب الأولوية في ذلك خلال أيام المهرجان . . ورأينا موكب زفة العروس يتهادى أو (يمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل) في سيارات كانت تطلق أبواقها الفرائحية , ويتقدمها حصان يمتطيه فارس من أبناء الأطاولة يحمل العلم السعودي . . وخلال أيام المهرجان الأسطورية التسعة , شاهد زوار المهرجان فعاليات خيالية , ما كان أحد منهم يتوقع لها أن تحضر مجتمعة إلى ساحة سوق الربوع , بدءا بالعرضة الجنوبية التي أحياها أبرز نجوم الشعر فيها (عبدالواجد بن سعود , عبدالله البيضاني , صالح الللخمي , وأحمد الدرمحي) .. إلى فرقة (عيد وسعيد) المسرحية ذات الشعبية الكبيرة , إلى شاعر المليون والبيرق الشهير (زياد بن نحيت) وابنه نايف . . وهذا ما دعاني لأن أقول مازحا لأحد كبار المنظمين "يا أخي - أنتم يا أبناء الأطاولة – سحرة , كيف جمعتم كل هؤلاء" .. فضحك وضحكنا معا .. والواقع أن الأطاولة بمهرجانها ذاك المتنوع , كانت قد "سرقت الكميرا" هذا الصيف من الجميع , وجمعت كل ألوان الطيف الثقافي بجانب الأصالة والامتاع في سلة واحدة .. حتى أن الشعر الفصيح قد حضر في أمسية شعرية ماتعة , والتاريخ حضر هو الأخر في أمسية ثانية , و"القلطة" اللعبة الشعبية الشهيرة في مساء ثالث . . أبناء الأطاولة تحدوا كل الظروف , ولا أبالغ إذا قلت أنهم قد تحدوا حتى أنفسهم , وصنعوا من منطقة "طرفية" مكان جذب هائل , ذاع صيته على مستوى المملكة , متفوقا ربما على مهرجانات الصيف في المدن الكبيرة المركزية .. وعرّفوا الناس بالمنطقة وببلدتهم العريقة الأطاولة , وصنعوا حالة ملحوظة من الجذب السياحي لمنطقة الباحة والجنوب كله . . وقفة : شكراً أبناء الأطاولة .. شكراَ أحفاد الأول , الذين أسسوا الحصون الشامخة , والمزارع الوارفة , والشيم والقيم العالية .. شكرا لمن حموا قديما ديارهم ببنادقهم وسيوفهم .. شكرا لمن خدموا ويخدون بلادهم حاليا , عشقا للوطن السعودي الكبير , وولاء للقيادة الرشيدة .. (أُولَئِكَ آبَائي، فَجِئْني بمِثْلِهِمْ .... إذا جَمَعَتْنا يا جَرِيرُ المَجَامِعُ) .
مشاركة :