إن جاز، في مناسبة رحيل القائدة النسائية السودانية، العربية، الإفريقية والعالمية فاطمة أحمد إبراهيم، فجر الثاني عشر من أغسطس/آب الجاري، في العاصمة البريطانية، أن نستعير، بتصرف، عبارة الشاعر محمد المكي إبراهيم في رثاء الشاعر محمد المهدي المجذوب، ففي رحيلها «ينفصل الجمر عن صندل الكفاح النسائي»، حيث مثلت، دائماً، عطر هذا الكفاح وطعمه اللذين لا يدانيهما عطر أو طعم. وسينقضي زمن طويل قبل أن تتمكن الحركة النسائية من تعويض هذه الخسارة الفادحة، وهذا الفقد الجلل. لم يكن السودان، أوان ولادة فاطمة، مطلع الثلاثينات، محض بلد ابتُلي بالعرج الاجتماعي الناجم عن الهيمنة الذكورية، إثر الهزيمة التاريخية لجنس النساء، وتراجعهن إلى داخل المنازل، بل ابتُلي، ضغثاً على إبالة، بهزيمة عموم أهله تحت سنابك الاستعمار، واستلحاقهم بعجلة الرأسمالية ولما يغادروا، بعد، عتبة الإقطاع، فضلاً عن تراجعهم، في قسمة العمل العالمية الظالمة، من الطليعية الاستقلالية إلى الذيلية الإمبريالية، فكان نصيب الطفلة فاطمة أن يُختم على جبينها، ككل بنات جنسها، بمعاناة الاضطهاد المركب، وطنياً، وطبقياً، وجندرياً. لكن، لئن كان طبيعياً ما قدمت لها والدتها الحاجة عائشة، في تلك الظروف، من دعم تربوي ونفسي، فقد هيأت لها الحياة ما فوق الطبيعي والمتوقع، الأب المتفتح، رجل الدين والتعليم، وخريج الكلية القديمة، شيخ أحمد الذي جمع إلى الوقار والتقوى، استنارة وطنية باذخة ساءته، بأثرها، مناهج المدارس الكولونيالية، فصادم إدارة التعليم البريطانية، مضحياً بوظيفته الحكومية، ومفضلاً عليها التدريس في المدارس الأهلية.حبت الحياة فاطمة، لاحقاً، بمن كان لقربهما منها، ودعمهما لها، تأثير كبير فيها، وهما شقيقاها المهندس مرتضى، والشاعر صلاح اللذان سبقاها إلى منصات العمل العام؛ فقد وقفا مع والدهما، يشجعونها جميعاً، ويذودون عنها نوائب عصر غير مواتٍ، خصوصاً لدى بواكير نشاطها السياسي. وكان ذلك الدعم، فضلاً عن الدعم اللاحق من رجال مستنيرين كثر، بمثابة الضرورة لمشوارها الطويل الوعر، خصوصاً بعد أن اختارت، هي الأخرى، الانطلاق من منصة واحدة مع مناضلين رجال على قدم المساواة. فقد أثبت التاريخ أن نضال النساء للتحرر لا ينفصل عن نضال بقية المقهورين لأجل الهدف نفسه. لذا فإن نضالات النساء أحوج ما تكون إلى التلاحم مع نضالات الرجال، على العكس من فكر الحركات (النسوية) التخريبية الواقفة على رأسها تلوِّح بشعارات (النِّضال) ضد الرجال من حيث هم رجال.إن الوعي الزائف هو الذي يشوه تصوّر المرأة لذاتها، ولعلاقاتها الإنسانية والاجتماعية بالرجل، ومن ثم لسبل ووسائل تحررها من كل النواحي، ويكرس، في نهاية المطاف، لانكسار قضيتها بالخضوع التام لهيمنة الثقافة الذكورية، من حيث يُراد التمرد عليها، والتخلص منها. ولولا أن فاطمة أدركت ذلك، باكراً، فعملت، طول عمرها، على نشر الوعي به، لما استطاعت أن تحفر اسمها عميقاً في سجل الخالدين. وقد يكفي أن نشير إلى أنها قادت أول إضراب نسائي في أربعينات القرن المنصرم؛ وشاركت، عام 1947، في تأسيس رابطة النساء المثقفات؛ وانتمت، في 1952، إلى الاتحاد النسائي، وفي 1955 ترأست تحرير مجلته (صوت المرأة)، ثم انتخبت رئيسة له عام 1956؛ وفي 1954 انتمت إلى الحزب الشيوعي، وما لبثت أن صعدت إلى قيادته؛ كما شاركت، عام 1962، في تكوين (هيئة نساء السّودان) لمناهضة نظام عبود؛ ولعبت دوراً بارزاً في التحضير لثورة أكتوبر 1964، وشاركت في قيادتها ضمن (جبهة الهيئات)؛ ثم انتُخبت، عام 1965، عضواً في الجمعية التأسيسية، كأول برلمانية في إفريقيا والشرق الأوسط. وقد حقق الاتحاد النسائي خلف قيادتها حق المرأة في التصويت والترشيح للبرلمان؛ والأجر المتساوي للعمل المتساوي؛ والمساواة في التأهيل، والتدريب، والترقي، ومحو أمية النساء، وتعليمهن مجاناً، وتوفير فرص العمل لهنّ في كل المجالات، بما فيها القوات المسلحة، والشرطة، والقضاء، والتجارة؛ ومنع الزواج قبل سن البلوغ؛ وحقّ الدّخول في الخدمة المعاشيّة، والحقّ في عطلة الولادة مدفوعة الأجر، وإلغاء قانون العمل بالمشاهرة، وقانون (بيت الطاعة)، وغيرها من الحقوق. ولم يكن مشوارها إلى كل ذلك محض نزهة، فقد قاومت ترسانات الأنظمة العسكريّة، رغم المضايقات والتهديدات، ورغم كل ما أصابها شخصياً. فعندما أعدم نميري، عام 1971، زوجها الشّفيع أحمد الشيخ، القائد العمالي السوداني، ونائب رئيس اتحاد النقابات العالمي، وضعها في الإقامة الجبرية لمدة عامين ونصف العام، عدا الاعتقالات والمحاكمات المتكررة. وعندما وقع انقلاب 1989 اضطرت لمغادرة البلاد، عام 1990، حيث واصلت نضالها في المهجر. ولفاطمة، برغم الانشغالات التنفيذية الكثيفة، والعوائق الجمة، إسهامات فكرية مقدرة، في عشرات الكتب، ومئات المقالات والأوراق العلمية. ونالت تكريمات وأوسمة عالمية عدة، حيث اختيرت، عام 1991، رئيسة لاتحاد النساء الديمقراطي العالمي، كأول شخصية عربية، أو إفريقية، أو مسلمة، أو عالمثالثية عموماً، تُنتخب لهذا المنصب؛ وحصلت، عام 1993، على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان؛ وعام 1996 على الدكتوراه الفخرية من جامعة كاليفورنيا؛ وعام 2006 على جائزة ابن رشد في برلين، اعترافاً بشجاعتها في المنافحة عن حرية الفكر، وغيرها. كمال الجزوليkgizouli@gmail.com
مشاركة :