تداخل الشعر مع الدراما لا يطيح بكل منها لتكوين شيء جديدلم يتعمد توظيف الفن الدرامي في شعره.. حدث ذلك عفو الخاطرالصراعات في شعر نزار تؤكد وجود الدراميّة في أعماله بقلم - جهاد فاضل: تعالج الباحثة العراقية بيداء عبد الصاحب الطائي في كتابها «البنية الدرامية في شعر نزار قباني» الصادر من دار ضفاف البغدادية هذا الموضوع المهم الذي لم يسبق أن عولج في إطار دراسة شعر نزار، والواقع أن الدراما أو الدرامية ليست أمراً جديداً في الشعر العربي، فقد رافقته على مر العصور وصولاً إلى زماننا الراهن، وقد تطور الشعر العربي في القرن العشرين نحو الدرامية تطوراً ملحوظاً، ولا نعني بذلك كتابة أعمال درامية كمسرحيات أحمد شوقي على سبيل المثال، لأن المسرحية عمل درامي بالضرورة سواء كُتبت شعراً أو نثراً، بل نعني بذلك تحول القصيدة من الغنائية الصرف ومن التجريد إلى غنائية فكرية تتمثل في القصيدة الدرامية. نزار قباني الشاعر الذي لا ينكر أحد دوره في التجديد الشعري في عصره، استفاد في شعره من البناء الدرامي إذ وظف الواقع اليومي وأحداثه بما فيهما من تعقيد أو بساطة بأسلوبه العفوي التلقائي الذي يعرفه قارئه. تتحدث الباحثة عن صراعات في شعر نزار لتؤكد درامية نزار، منها ما تسميه بالصراع الداخلي الذي يحدث بين الشخص ونفسه نتيجة تناقضات يعاني منها، وتقدم مثلاً على ذلك قصيدته (مكابرة) التي يكشف فيها الشاعر عن مدى حيرته عبر خلق التساؤلات التي يطرحها على نفسه، يقول: تراني أحبك؟ لا أعلمُ سؤالٌ يحيط به المبهم وإن كان حبي لك افتراضا لماذا إذا لُحت طاش برأسي الدمُ؟ وحار الجواب بحنجرتي وحف النداءُ ومات الغمُ وفر وراء ردائك قلبي ليلثم منك الذي يلثم تراني منك الذي يلثم تراني أحبك؟ لا. لا. محالٌ أنا لا أحب .. ولا أغرم وأسأل قلبي : أتعرفها؟ فيضحك مني ولا أفهمُ إلى أن يضيق فؤادي بسّري ألح . وأرجو . وأستفهم فيهمس لي : أنت تعبدها لماذا تكابر .. أو تكتم؟ تحليل الحالة النفسية يقوم الصراع الداخلي هنا على تحليل الحالة النفسية والشعور الداخلي للذات عند رؤية المحبوبة عبر تحشيد مجموعة من الأفعال (طاش، حار، جف، مات، فرّ، يلثم) إذ بلورت الصراع النفسي الذي يعاني منه الشاعر خلال الرصد الدقيق لحركاته. وتتداخل في هذه البنية الذات الشاعرة بالمرأة المخاطبة، إذ تنكشف العلاقة بينهما عن طريق تحدي الشاعر ذاته ومكابرته وكتمان حبه لتلك المرأة، فتكشف لنا مفارقة واضحة تتمثل في التناقض بين أفكار الشخصية وهواجسها ومشاعرها التي يطرحها الصوت الداخلي وتلك المطروحة بصوت خارجي. وهذا ما يزيد من حدة الصراع وتوليد الفعل الدرامي وتعميق الحركة الذهنية. موضوعات جريئة وتؤدي المفارقة الدرامية إلى الصراع الدرامي، ومن خلال التعبير بالمفارقة يتمكن الشاعر من طرح موضوعات جريئة بطريقة فنية مكثفة، المفارقة عند نزار لم تكن هدفا أو غاية بحد ذاتها، إنما هي وسيلة تمنح المتلقي لذة أدبية وتعمق حسّه الشعري. مما يمثل المفارقة في شعر نزار قصيدة (حوار) وهي قصيدة قصيرة جدا، يقول فيها: إذا سألوني من تكون حبيبتي أقول لهم: يا ليت أملك رسمها فإني من عشرين قرناً أحُبها ومازلت حتى الآن لا أعرف اسمها. وتُعد قصيدة (حزب المطر) مثالاً آخر لاحتواء المفارقة في بنيتها الفنية: أنا لا أسكن في أي مكان إن عنواني هو اللامنتظر مبحرا كالسمك الوحشي في هذا المدى في دمي نار وفي عيني شرر ذاهباً أبحث عن حرية الريحالتي يتقنها كل الغجر توظّيف الشخصيات التاريخية وظّف نزار عدداً من الشخصيات التاريخية في بنية قصائده، فأضاف بذلك إلى النص موضوعية أكثر وأخرجها من دائرة المشاعر والأفكار الذاتية. وإن كانت هذه المشاعر والأفكار تعّبر عن الشاعر وآرائه، وهو عندما يوظف الشخصية التاريخية في شعره إنما يحاول بذلك التوافق بينهما وبين واقعه المعاصر الذي يريد التعبير عنه، فإنه في ذلك الأمر يحاول التوفيق بين نوعين مختلفين من الخطاب: الخطاب التاريخي والخطاب الشعري. استدعى نزار العديد من الشخصيات التاريخية بطريقتين الأولى أنه كان يخاطب تلك الشخصية بشكل مباشر والثانية أنه كان يأتي بالشخصية في سياق تحليله للأشياء. وتتضح الطريقة الأولى في قصيدة (حوار مع ملك المغول): يا ملكَ المغول يا أيّها الغاضب من صهيلنا.. يا أيّها الخائف من تفتّح الحقولْ.. أريد أن أقول: من قبل أن يقتلني سيّافكم مسرورْ.. وقبل أن يأتي شهود الزورْ.. أريد أن أقول كلمتينْ لزوجتي الحامل من شهورْ.. وأصدقائي كلّهم.. وشعبي المقهورْ.. أريد أن أقول: إنّي شاعر أحمل في حنجرتي عصفور أرفض أن أبيعه.. وأنت من حنجرتي تريد أن تصادر العصفورْ.. منشورات فدائية وتُعد قصيدة (منشورات فدائية) مثالاً للطريقة الأخرى، وهي ذكر الشخصية التاريخية في سياق تحليله للأشياء: لأن هارون الرشيد مات من زمان ولم يعد في القصر غلمانٌ لأننا من قتلناه، وأطعمناه للحيتان لأن هارون الرشيد لم يعد إنسان لأنه في تخته الوثير لا يعرف ما القدس.. وما بيسان فقد قطعنا رأسه، أمس، وعلقناه في بيسان بانتظار جودو وفي قصيدة (بانتظار جودو) يستدعي الشاعر شخصية البطل صلاح الدين الأيوبي: ننتظر القطار ننتظر المسافر الخفي كالأقدار يخرج من عباءة السنين يخرج من بدر من اليرموك من حطين من سيف صلاح الدين سيرة عنترة وكان لسيرة عنترة حضور متعدد في قصائده رمز به للإنسان الشرقي، فمرة نلقاه ذلك الجاهلي المتزمت الذي لا يعطي المرأة أي حق من حقوقها، ولا حتى حق التعبير عن معاناتها وحرمانها من أبسط مظاهر الحرية، ويتضح ذلك جليا في قصيدة (رسالة إلى رجل ما) التي يصرخ فيها نزار بصوت تلك المرأة المسلوبة الحقوق: يا سيدي! عنترة العبسي خلف بابي يذبحني إذا رأى خطابي يقطع رأسي لو أنا عبّرتُ عن عذابي فشرفكم يا سيدي العزيز يطمر النساء في التراب.. تداخل الشعر مع الدراما ويستنتج قارئ كتاب «البنية الدرامية في شعر نزار قباني» أن مؤلفته بيداء عبد الصاحب الطائي تعتبر أن تداخل الشعر مع الدراما لا يلغي أو يطيح بكل منها من أجل تكوين شيء جديد، إنما تبقى هي الأصول، وما يتولد عنها فهي فروع مستحدثة تعني إذا لم تجد أرضية صلبة تقف عليها، وهذا ما يحدث عندما لا يجيد الشاعر استخدام أو توظيف العناصر الدرامية في شعره. أما إذا أوتي الشاعر قدرة تعبيرية وحسن توظيف لتلك العناصر، فهي باقية وثابتة، كما هو الحال مع الشاعر نزار قباني، فهو لم يتقصد توظيف الفن الدرامي في شعره، ذلك أن التعمد يقتل الإبداع الفني، إنما كان توظيفه لها عفو الخاطر حتى تكونت تلك النماذج التلقائية. وقد وظف نزار عنصر الحدث في بناء قصائده توظيفا فنياً راقياً، إذ تمكن من تقديم نصوص نابضة بالحركة والحيوية، فبدت كأنها مشاهد حية آنية. الصراع في القصيدة والقارىء يجد أن الشاعر بنى الكثير من قصائده بناءً حكائياً، فوظف الحكاية في بنية تلك القصائد، وفجّر طاقات كامنة كانت جزءا من تكوينه الذاتي والنفسي والثقافي والفكري، وقدّم بالتالي تلك القصائد التي أحالها إلى واقع حي تقديماً مفعما بالدرامية والتشويق. وكان عنصر الصراع في القصيدة عنصراً واضحاً، فهذا العنصر هو الذي أمدها بالحركة والتوتر، وتمكن نزار من إثراء نصه الشعري عبر توظيف عنصر الصراع في أكثر قصائده، وقد حوّل قضية الصراع من مواقف محدودة ضيقه إلى أبعاد إنسانية. عندما قّدم نذار الشخصية لمتلقيه، صورها له تصويراً مباشراً حينا أو غير مباشر حينا آخر، وربما كان غير المباشر أكثر تشويقا من الأول لأن المتلقي عندها يكون حرّاً في النتائج التي يتوصل إليها. ولم يكن للحوار حضور فاعل في دواوين الشاعر كحضور الشخصيات والصراع، إلا أنه في النماذج التي وظف فيها، كان تجسيداً للحوار الدرامي، إذ وظفه الشاعر بطريقة فنية لافتة. على أن من الأكيد أنه لا يمكن وصف قصيدة ما بالدرامية إذا كانت تحتوي على عنصر واحد فقط من عناصر الدراما كاحتوائها على سبيل المثال على الحوار وحده، إنما يجب أن يتضافر عنصران أو أكثر من تلك العناصر الدرامية في القصيدة الواحدة، على أن التأمل في النماذج الواردة في البحث يؤدي إلى اعتبار أن كل واحد منها يستحق أن يوصف بالنموذج الدرامي لأنه يحتوي على أكثر من ركن من أركان الدراما. ترى الباحثة أن القصيدة عن نزار هي نوع من العصيان لواقع العصر والمجتمع رغبة من الشاعر في التحرر ومحاولة لعملية إنقاذ عامة يتضح ذلك عن نصوص أوردتها في دراستها ومنها: يا ملك المغول، يا أيها الغاضب من صهيلنا، يا أيها الخائف من تفتح الحقول، أريد أن أقول من قبل أن يأتي سيافكم مسرور، وقبل أن يأتي شهود الزور..
مشاركة :