"دموع شهريار" تعتبر مثالاً حياً لقصيدة القناع جهاد فاضل: لم ينل شاعر عربي معاصر من اهتمام الباحثين، والقرّاء أيضاً، ما ناله نزار قباني، وإذا كان سوق الكتب قد سجّل في السنوات الأخيرة تراجعاً في مبيعات دواوينه، تبعاً ربما لتراجع الإقبال على القراءة بوجه عام، فإن "سوق" الأبحاث والدراسات إن جاز التعبير، سجّل على العكس تنامياً في الاهتمام بالشاعر وشعره، يشهد على ذلك هذا الكمّ الكبير من الكتب التي تتناوله، ومنها هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار "ضفاف" في بغداد للباحثة العراقية بيداء عبدالصاحب الطائي، وعنوانه "البنية الدرامية في شعر نزار قباني". وقد درست الباحثة موضوعها دراسة جيدة يشهد على ذلك اهتمامها بأدقّ التفاصيل في شعر نزار، وكذلك لائحة المراجع التي استندت إليها، وهي تُعدّ بالعشرات. وهي ترى أن القصيدة عند نزار إنما هي نوع من العصيان لواقع العصر والمجتمع رغبة في التحرّر ومحاولة من الشاعر لعملية إنقاذ عامة وشاملة عبر تفجر رغبته المكبوتة المتمثلة بالرفض، ويتضح ذلك عندها من خلال نصوص توردها ومنها هذا النص: يا ملك المغول يا أيها الغاضب من صهيلنا يا أيها الخائف من تفتح الحقول أريد أن أقول من قبل أن يأتي سيّافكم مسرور وقبل أن يأتي شهود الزور أريد أن أقول كلمتين لزوجتي الحامل شهور وأصدقائي كلهم وشعبي المقهور أريد أن أقول: إني شاعر أحمل في حنجرتي عصفور أرفض أن أبيعه وأنت من حنجرتي تريد أن تصادر العصفور توظيف الرموز وقد لجأ نزار شأنه شأن الشعراء المحدثين إلى توظيف العديد من الرموز الدينية في بناء قصائده، وكان منها ما يمثل رموزاً إيجابية وأخرى سلبية، من الرموز الإيجابية شخصية النبي موسى، في قصيدة "منشورات فدائية"" لأن موسى كسرت عصاه ولم يعد بوسعه شق مياه البحر لأنكم لستم كأمريكا ولسنا كالهنود الحمر فسوف تهلكون عن آخركم وفوق صحارى مصر إذ تحيلنا مفردات هذا النص إلى قوله تعالى في سورة البقرة: "فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق" إلا أن الشاعر أضاف تغيرات وإضافات جذرية على المضمون الأصلي لقصة النبي موسى وعصاه، إذ وظّفها توظيفاً عكسياً فجعل منها دلالة رمزية خاصة مغايرة، فأشار للشاعر بلفظة موسى في هذا النص إلى اليهود مثلما أشار بكسر العصا إلى سحقهم. ومن الرموز السلبية التي استخدمها نزار في شعره شخصية الأعور الدجال، يقول في قصيدة "منشورات فدائية": سوف يموت الأعور الدجال ونحن باقون هنا حدائقا وعطر برتقال يرمز نزار بالأعور الدجال إلى العدو الإسرائيلي. وتُعد شخصية أبي لهب من تلك الرموز السلبية التي استخدمها نزار، فنراه يقول في قصيدته "منشور سري جداً": العالم عشق فاتحدوا يا أهل العشق ما زال أبولهب يتمطى فوق وسائد هذا الشرق وتعد قصيدة "منشورات فدائية" نموذجاً ومثالاً للطريقة التي تتمثل في ذكر الشخصية التاريخية في سياق تحليله للأشياء: لأن هارون الرشيد مات من زمان ولم يعد في القصر غلمان لأننا نحن قتلناه وأطعمناه للحيتان لأن هارون الرشيد لم يعد إنسان لأنَّهُ في تخته الوثير لا يعرف ما القدس وما بيسان فقد قطعنا رأسه أمس وعلقناه في بيسان ولسيرة عنترة العبسي حضور متعدد في قصائد نزار، رمز بعنترة للإنسان الشرقي، فمرة نلقاه ذلك الجاهلي المتزمت الذي لا يعطي المرأة أي حق من حقوقها، ولا حق التعبير عن معاناتها وحرمانها من أبسط مظاهر الحرية، ويتضح ذلك جلياً في قصيدة "إلى رجل ما" فيفصح نزار بصوت تلك المرأة المسلوبة الحقوق: يا سيدي عنترة العبسي خلف بابي يذبحني إذا رأى خطابي يقطع رأسي لو أنا عبرت عن عذابي فشرقكم يا سيدي العزيز يبايع الرجال أنبياء ويطمس النساء في التراب وفي موضوع آخر، لا يكون عنترة ذلك الفارس الشجاع، بل يكون رمزاً للرجل الشرقي الذي باع عروبته وتاريخه "بلفافتي تبغ وقمصان مشجرة ومعجون جديد للحلاقة"، ينحي تراثه جانباً، ويرتمي في أحضان الحضارة الغربية، أو يلتقط قشور تلك الحضارة: عنترة يبحث طول الليل عن رومية بيضاء كالزبدة.. الرمزية الفولكلورية وهناك الرمزية الفولكلورية التي وجد نزار فيها مجالاً لاحتواء تجاربه وإغناء مخيلته، وتعد قصيدة "تريدين" واحدة من القصائد التي وظّف الشاعر فيها الشخصيات الفولكلورية. يخاطب نزار امرأة: ولستُ أنا سندباد الفضاء لأحضر بابل بين يديك وأهرام مصر وإيوان كسرى وليس لدي سراج علاء لآتيك بالشمس فوق إناء كما تتمنى جميع النساء.. إذ ينهض هذا النص على توظيف شخصيتي السندباد وعلاء الدين توظيفاً رمزياً يجد فيهما ما يتناسب ومضمون نصه الشعري. وفي قصيدة "مقابلة تلفزيونية مع غودو عربي" يوظف نزار شخصية من الفولكلور الغربي هي شخصية غودو التي هي عبارة عن شخصية رجل ينتظر من يعتقد أنه سيأتي في وقت ما، أو هو مجرد شبح لرجل غامض وقد يكون راعي غنم بلحية بيضاء. وعلى الأرجح هو شخص غير موجود أبداً، ولعله شخصية خرافية وغودو لن يأتي أبداً! تتكون قصيدة نزار من تسعة مقاطع وظفت فيها جميعاً شخصية غودو التي جاء بها الشاعر في محاولة لإيضاح رؤيته الفكرية ونظرته إلى الواقع العربي: ما زال غودو منذ مليون سنة مرتدياً معطفه حاملاً أكياسه وقانعاً أن هناك في المدى محطة وأن في إمكانه لو شاء أن يخترع القطار. حول نزار هذه الشخصية من رمز خاص إلى رمز عام، فاستحالت بذلك التجربة الذاتية إلى نطاق أوسع وأشمل، إذ بيّن الشاعر أن الشخص إذا كان قانعاً بما لم يستطع تحقيقه، فسيبقى على حاله، إنما بالإرادة يستطيع أن يحقق المستحيل. شخصيات القناع وهناك ما تسميه الباحثة "بشخصيات القناع" الوظيفة التي يؤديها القناع تتأسس على مبدأ التقمص الذي يتحدد في ضوئه علاقة مرتدي القناع بالقناع. ذلك أن الشاعر في قصيدة القناع يستطيع أن يقول كل شيء دون أن يعتمد شخصه أو صوته الذاتي بشكل مباشر لأنه يلجأ إلى شخصية أخرى يتقمصها، أو يتحد بها، أو يخلقها خلقاً جديداً ويحمّلها آراءه ومواقفه. تعدّ قصيدة "دموع شهريار" لنزار مثالاً حياً لقصيدة القناع. نجد فيها شخصية شهريار بنكهة نزارية: صديقتي مللتُ من تجارة الجواري مللتُ من مراكبي مللتُ من بحاري يستلهم نزار في هذه القصيدة حالة شعرية ينقلها من حالتها الماضية وحاضنتها التاريخية والنفسية، ويصبها في محتواه النفسي والاجتماعي بقدر عالٍ من التضافر والفاعلية: لن تفهميني أبداً لن تفهمي أحزان شهريار فحين ألف امرأة ينمن في جواري أحسّ أن لا أحد ينام في جواري ويتقمص نزار شخصية الشاعر ديك الجن الحمصي الذي قتل جاريته ورد بنت ناعمة الحمصي، فأراد عبر هذا القناع أن يعبر عن شخصيته المضطربة، وذلك في قصيدته "ديك الجن الدمشقي". تحدث الشخصية المقنعة قائلة: إني قتلتك واسترحت يا أرخص امرأة عرفت أغمدت في نهديك سكيني وفي دمك اغتسلت لكنه سرعان ما يكتشف أنه فشل في قتل تلك المرأة: ولقد قتلتك عشر مرات ولكني فشلت وظننت والسكين تلمع في يدي، أني انتصرت وحملت جثتك الصغيرة طيّ أعماقي وسرت وبحثت عن قبر لها تحت الظلام فما وجدت وهربت منك وراعني أني إليك أنا هربت! هذه رحلة خالية ذهبنا فيها مع الشاعر تركت في ذهن المتلقي حواشي رهيبة ذات تأثير واسع، فعبر الشاعر بصورة غير مباشرة عن حالته النفسية المستترة. ومما يعمق الحسّ الدرامي في النص أن الشاعر يحاول في النهاية أن يمزق ذلك القناع وينزعه لتظهر شخصيته هو، قائلاً: حسناء لم أقتلك أنتِ وإنما نفسي قتلتْ! وهناك شخصيات عامة تشير الباحثة إليها يستمدها الشاعر من واقع الحياة ومن النماذج الإنسانية يخبرنا عن سيرتها عبر عمل درامي يتحقق فيه الإحساس بواقع حال تلك الشخصية. من هذه القصائد التي تعبر عن شخصية عامة قصيدة "راشيل شوارزنبرغ" يقول نزار: أكتب باختصار قصة إرهابية مجندة يدعونها راشيل قضت سنين الحرب في زنزانة منفردة شيدها الألمان في براغ كان أبوها قذراً من أقذر اليهود يزوّر النقود وهي تدير منزلاً للفحش في براغ يقصده الجنود ينهض هذا المقطع على شخصية أساسية للقصيدة هي شخصية راشيل اليهودية وأخرى ثانوية هي شخصية والد راشيل. الأحداث التي تدور حول هاتين الشخصيتين هي بمثابة تمهيد أو مقدمة للأحداث التي سيسردها راوٍ عليم متمثل في الذات الشاعرة، إذ تتقمص شخصية فلسطيني يتحدث عن أمّه وأخته وأبيه ثم يتحقق التصاعد الدرامي في النص عبر أخذ تلك اليهودية مكان الأمّ الشهيدة الذبيحة. يدعونها راشيل حلت محلّ أمي الممددة في أرض بيارتنا الخضراء في الخليل أمي أنا الذبيحة المستشهدة وينتقل الراوي إلى شخصية أخرى ترتبط ارتباطاً عضوياً بمضمون القصيدة، تتمثل بالأخت نوار الفلسطينية المغتصبة على يد اليهود: أختي التي علقها اليهود في الأصيل من شعرها الطويل أختي أنا الهتيكة الإزار على ربي الرملة والخليل أختي التي مازال جرحها الطليل مازال بانتظار نهار ثأر واحد، نهار ثار على يد الصغار جيل فدائي من الصغار وتزداد درامية النص بوجود شخصية رئيسية هي شخصية الأب الفلسطيني، إذ تظهر ملامح تلك الشخصية بالوصف الخارجي لها: وكان والدي الرحيم مزارعاً شيخاً يحب الشمس والتراب والله، والزيتون، والكروم كان يحب زوجه وبيته والشجر المثقل بالنجوم وكان لهذه الشخصية حضور واضح ومهم جداً في رواية الأحداث، إذ تقوم بتفجير الفعل الدرامي والوصول به إلى الذروة، كما يتضح من قول الشاعر: وجاء أغراب مع الغياب من شرق أوروبا ومن غياهب السجون جاؤوا كفوج جائع من الذئاب فأتلفوا الثمار وكسروا الغصون وأشعلوا النيران في بيادر النجوم والخمسة الأطفال في وجوم والليل في وجوم واشتعلت في والدي كرامة التراب فصاح فيهم اذهبوا إلى الجحيم لن تسلبوا أرضي يا سلالة الكلاب ومات والدي الرحيم بطلقة سدّدها كلب من الكلاب عليه مات والدي العظيم في الموطن العظيم وكفّه مشدودة شدّاً إلى التراب الشخصية العامة ويبدو مما سبق أن الشخصية العامة تتوزع عند نزار بين شخصية واقعية وأخرى خيالية ذات بعد واقعي. وواضح أن تلك الشخصيات وظفت لأغراض فنية، هدف منها الشاعر إلى خلق رؤية درامية بعيداً عن طغيان الذات. كما يتضح أن كل واحد من النماذج أو الأمثلة التي ذكرتها الباحثة من شعر نزار في بحثها يستحقّ أن يعتبر "نموذجاً درامياً"؛ لأنه يحتوي على أكثر من ركن من أركان الدراما، وظف في النص الشعري توظيفاً يدّل على مقدرة الشاعر في اختيار ما هو جوهري. ونستنتج من كل ما سبق أن شعر نزار مازال يلهم الكثيرين من الباحثين، ومنهم هذه الباحثة العراقية الشابة، نظراً لحيويته ومعالجته لقضايا الراهن التي تنعكس فيه بصورة مباشرة وناجحة معاً.
مشاركة :