علمانيو العرب في ضوء التراث العلماني الغربي

  • 7/28/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

رافق الفكر العلماني العربي نقيضه الديني طويلاً، من دون قدرة على حسم الصراع معه في أوقات مبكرة، تمتد في الربع الثالث من القرن الفائت، وفي ظل سياقات مواتية بما لا يقاس مع ما نعيشه الآن، الأمر الذي يمثل فرصة ضائعة على الأمة، انفلتت من قبضة يدها قبل أن تحسم واحدة من أخطر مشكلاتها العملية وإشكالاتها النظرية، تحت ضغط الاستبداد العسكري المتغلغل في ثناياها، والذي طالما نافق الاستبداد الديني بهدف استعماله في كبح النزعات التحررية التي سوف تترتب على المجاهرة بعلمانية ناجزة يفترض أن تذهب إلى غايتها الطبيعية وهي الديمقراطية وما تنطوى عليه من مطالب مجتمعية مشروعة لتبادل السلطة ولكنها ليست مشروعة أبداً في نظر تلك الجماعات المسيطرة، والتي بدا أنها قد وضعت أيديها على مجتمعاتنا. اليوم، بعد المآسي التي خلّفها الربيع العربي وقد انقلب «خريفاً إسلامياً»، صارت مجتمعاتنا أحوج ما تكون إلى إنجاز علمانيتها خلاصاً من أمراض السلطة الجامدة، وأسئلة الشرعية المجمدة ناهيك بالواقع المهترئ، ومن ثم يتوجب على الفكر أن ينتقل من خانة الدفاع إلى موقع الهجوم. صحيح أن الأرض لا تزال محترقة والاستبداد لا يزال مسيطراً، ولكن تبقى الفرصة متاحة لمثل هذا الهجوم مثلما أن الحاجة إليه ماسة، ذلك أن الفترات القلقة من عمر الزمن، والتي تشهد تشككاً في اليقينيات السياسية والدينية، كالتي نعيشها اليوم، هي ذاتها الفترات التي يُقبل فيها الناس على تمحيص مفاهيمهم المستقرة، مع إمكان قبول أخرى جديدة، حيث مفهوم العلمانية يمثل فريضة الوقت التي لا يجب تأجيلها إلى الغد. غير أن نجاح مثل هذا الهجوم يتطلب التحلي بأكثر درجات المرونة الفكرية، والتخلي عن حال التصلب التي تورط فيها كثيرون من رواد الفكر العلماني العربي وقوعاً في فخ الخطاب التبسيطي، والطروحات الجدية للإشكالية التي انبروا للدفاع عنها، حيث الحاجة شديدة لأكثر الأطروحات نجاعة «نظرياً» في بناء الجسور وتحقيق التصالح بين الدين والعلمانية، وأكثر النماذج نجاحاً «تاريخياً» في تجسيد هذا التصالح، أملاً في صوغ تيار رئيسي قادر على تجسيد دفق حركة مجتمعاتنا إلى المستقبل على رغم ممانعات متصورة من تيارات مناوئة، ربما لا يمكن القضاء عليها نهائياً، ولكن تمكن إزاحتها إلى الخلف أو إحالتها إلى هامش يعارض ولا يعطل. فعلى الصعيد النظري، يتعين التمييز بين مصطلح العِلماني بكسر العين والعَلماني بفتحها. فالأول هو «العلموي» الذي يمكن أن نصف به كل من يتخذ من المعرفة العلمية الوضعية كما تتجسد في العلوم الطبيعية، نموذجاً لباقي أنساق المعرفة، ما يعني أنه يعمم المنهجية الوضعية على المجالات المختلفة، نافياً إمكان المعرفة الخلقية أو الدينية؛ لأن القضايا المتعلقة بأي منها ميتافيزيقية، لا يمكن إخضاعها لمعايير العلم التجريبي، ومن ثم فهي مزعومة أو زائفة. أما الثاني، فهو الشخص المنتمي إلى هذا العالم، المنشغل بالملكوت الدنيوي لا المنتظر الملكوت الأخروي، العلمانية ترادف إذاً النزعة الدنيوية، والانشغال الإيجابي بحركة التاريخ بعيداً من حالة الدروشة الصوفية أو أشكال الاغتراب الوجودية، حيث يمنح العقل الإنساني، مستقلاً عن الدين، دوراً أساسياً في مقاربة مجالات الحياة المختلفة، واكتشاف الغايات التي يجدر تحقيقها في هذا العالم والوسائل المعنية بتحقيقها. ومن ثم تصبح العَلمانية أقرب إلى موقف إبستيمولوجي/ معرفي، يحترم العقل، ويسعى إلى تنظيم المجال السياسي على أساسه. فالعلمانية السياسية هي العقلنة مطبقة على الفضاء السياسي، وبالأحرى على ظواهر من قبيل ممارسة السلطة وتداولها، وليست رؤية شاملة للحياة، تفرض على معتنقيها نزعة مادية أو موقفاً إلحادياً. ومن ثم، فإننا لا نربط بين مفهوم العَلمانية السياسية، والمذهب الوضعي المتطرف، نعم، قد يرتبطان معاً في بعض التجارب، ولكنه ارتباط أيديولوجي يقصد إليه صاحبه، وليس ارتباطاً حتمياً يفرضه الانتماء إلى الحداثة. في هذا السياق، يمكن مفهوم العلمانية (السياسية) أن يبقى على احترام المطلقات الأخلاقية، ولا يمنع ممارستها في المجال الخاص للفرد، بل يسمح بأن يكون التشريع القانوني متوافقاً مع المبادئ الأساسية للدين حتى لو أعطى نفسه الحق في تفسيرها تفسيراً عصرياً. وذلك على العكس من التيارات الوضعية المتطرفة التي تصر على علمنة الأخلاق، وهنا نصبح أمام علمنة وجودية تنزع المرجعية الأخلاقية من الإيمان الديني ذاته، وليس فقط من المتحدثين باسمه، لتصبح القيم الأخلاقية نسبية وتاريخية، فلا النص الديني مطلق، ولا القيم العليا التي يقول بها كونية، والفضيلة هي فقط ما يتوافق عليه البشر، حتى لو كان في الأصل رذيلة، فالاتفاق البشرى هو أصل الخير والشر، الإباحة والتحريم، والإنسان هو المعيار النهائي للفضيلة. وبينما تجعل العلمانية المعتدلة من الإنسان قطباً ثانياً للوجود مع الله، يحاوره ويتلمسه من دون أن يقصيه من موقعه، لذا تبدو ممكنة في ظل الإيمان الروحي، قدر ما هي مطلوبة للحكم الرشيد والمجتمع الحر، فإن العلمانية الفائقة تضع الإنسان في مركز العالم بديلاً من الله الذي يتم إقصاؤه إلى موقع الهامش أو يدفع به إلى مصير كالموت، ومن ثم تبدو غير ممكنة في ظل الإيمان، مثلما هي غير مطلوبة لرشادة الحكم أو تطور المجتمع، بل إنها ربما فتحت الباب لأمراض اجتماعية عدة، فحيث يتوارى الوازع الديني يضمر الضمير الأخلاقي عند عموم البشر، وتتمدد نزعات العبث ومشاعر العدم في كل اتجاه، حتى لو كانت المجتمعات متقدمة، بل أحياناً بسبب تقدمها هذا، تنبع روافد أزمة المعنى في عالمنا المعاصر. وأما على الصعيد التاريخي فيتوجب البحث عن أكثر التجارب تصالحاً بين الدين والعلمانية، حيث تندرج نظم متعددة، تفصل جميعها بين الدين والدولة وإن اختلفت في كيفية تحقيق هذا الفصل. فالمبدأ الذي تجمع عليه تلك النظم العلمانية إنما يتمثل في رفض الوصاية الكهنوتية على المصير البشري، وادعاءات فئة من الناس الحق في احتكار المعرفة في أي شأن دنيوي، خصوصاً العلمي أو السياسي، ومن ثم توكيد الفصل بين الديني بما هو أمر مطلق وبين الزمني بما هو أمر نسبي، ليس فقط تكريساً للعقلانية السياسية حيث تؤدى العلمانية إلى أكثر الطرائق احترافية على صعيد إدارة الدول، بل وأيضاً تكريساً للتسامح والتعدد وقبول الآخر المختلف، ما يضمن حسن إدارة التنوع المجتمعي، الديني والمذهبي، خصوصاً أن غالبية الدولة الوطنية المعاصرة تنطوي على رعايا لأديان مختلفة، ومن ثم تنبع الحاجة إلى جهاز سياسي محترف ومحايد، لا يحمل قيماً بذاتها مادية أو روحية، ولا يقف مع دين ضد آخر، وإلا كانت الحروب الدينية على منوال القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث كانت المعارك الصغرى بين الطوائف والمذاهب، خصوصاً الهوغونت واليسوعيين، تكاد تنشب كل يوم، ناهيك بالحروب الكبرى التي لم يخل منها عقد من الزمن طيلة نحو القرن ونصف القرن وبالذات بين فرنسا وألمانيا، حتى إن بعضها قد استمر ثلاثين سنة وهي التي انتهت بصلح وستفاليا الذي ولد من رحمه مفهوم الدولة القومية ذات السيادة، ما كان إيذاناً بميلاد الحداثة السياسية ومثلها العليا. لكن، وعلى الرغم من اتفاق تلك النظم على هذا المبدأ فإنها تختلف على كيفية تطبيقه بهذه الدرجة من الخشونة والحدة أو النعومة والسلاسة. فمثلاً قام النموذج الفرنسي/ اليعقوبي في القرن الثامن عشر على قاعدة الفصل الخشن، وإقامة التناقض الجذري الحاد بين الدين والعلمانية، حيث تم الهجوم على الكنيسة وقنص أغلب ممتلكاتها، وحصار دورها ليس فقط في المجال السياسي بل وأيضاً في المجال الاجتماعي/ المدني، بل كثيراً ما تم تحويل الكنائس معارض للرسم ومصانع للكحوليات وبارات للرقص، خصوصاً في مناطق الريف الجنوبي والغربي، ولم يخفف من غلواء هذا الهجوم طيلة سنوات الثورة الفرنسية، خصوصاً في عهد الإرهاب إلا مرسوم «نانت» الذي رعاه الجنرال نابليون بونابرت، حيث أدرك الرجل بنافذ بصيرته حاجة المجتمع الفرنسي إلى نوع من الاستقرار، لن يتأتى إلا عبر تبريد حرارة الاحتقان بين الكنيسة والدولة، بين المحافظين والثوريين، فأعاد للكنيسة جزءاً كبيراً من ممتلكاتها ومن احترامها، وأعاد إلى العمل عدداً هائلاً من رجالها الذين كانوا قد تركوا العمل بها. وعلى رغم ذلك فقد ظل الدين المسيحي محاصراً في نظام التعليم الفرنسي، حيث كان يواجهه نوع من التعليم المدني يتحدث عن قيم الجمهورية والعلمانية بما يشبه القداسة، حيث تحولت هذه القيم ما يشبه ديانة مدنية، حاصرت الكنيسة والإيمان المسيحي معنوياً حتى اضطرت الكنيسة الكاثوليكية في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962- 1965) إلى الاعتراف قانونياً بالمبدأ العلماني كأساس دستوري لعلاقتها بالدولة، بعد أن كان هذا الاعتراف مجرد اعتراف عملي بالأمر الواقع مذ هبت رياح الثورة السياسية والتنوير الفلسفي. لكن، وفي المقابل، ثمة تجارب أخرى نهضت منذ البداية على قاعدة التصالح والتسامح ومن ثم الفصل الناعم بين المجالين بهذه الدرجة أو تلك. فالنموذج البريطاني، على سبيل المثل، يختلف تماماً عن النموذج الفرنسي، حيث رأس الدولة هو نفسه رأس الكنيسة، وحيث الملكية دستورية ومدنية وليبرالية على النمط البرلماني الذي يمثل تجسيدا للتراث البريطاني التالي على ثورة كرومويل التي أفضت إلى إعدام الملك شارل الأول عام (1649)، وشرعت لدور البرلمان في مواجهة المؤسسة الملكية. وعلى رغم سقوط جمهورية كرومويل وعودة بريطانيا إلى النظام الملكي مع الملك الابن شارل الثاني عام 1660 ثم جيمس الأول حتى عام 1689 إلا أن دور البرلمان ازداد وترسخ نهائياً وفرض نفسه على التطور السياسي لبريطانيا التي غادرت موقع الثورة ولزمت طريق الإصلاح التدرجي على طريق الملكية الدستورية منذ ثلاثة قرون ونصف القرن لتعطينا درساً بليغاً في كيفية التطور من داخل الاستمرار، وفي كيفية الدمج الدين بالعلمانية وفي الفصل الناعم بين الدين والدولة. أما النموذج الألماني فيقدم خبرة ثالثة يمكن القول أنها وسيطة بين الخبرة الفرنسية ونقيضتها البريطانية، حيث إن الحزب الحاكم في ألمانيا اليوم، والأكثر سيطرة على مقاليد الأمور منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (الديموقراطي المسيحي) يمثل حزباً مدنياً إلى أبعد مدى، لا يُكفِّر منافسيه، خصوصاً الاشتراكيين، بل يحترم نظام الحكم العلماني للدولة، ويعكس ديموقراطية سياسية ربما اتسمت فقط بنوع من المحافظة التي تحترم المطلقات الأخلاقية المسيحية من قبيل رفض الإجهاض والمثلية الجنسية على سبيل المثل، فهو أقرب إلى التعبير عن مسيحية حضارية لا تمت بصلة إلى المسيحية السياسية القروسطوية، ولا الإسلام السياسي من قريب أو بعيد، ومن ثم فإن النموذجين الأخيرين يعطيان العالم العربي أملاً بحل الإشكالية وأفقاً للتطور السياسي عبر بناء نظم حكم علمانية ودول مدنية لا تتناقض مع العقيدة الدينية ولا مع القيم الأخلاقية الإسلامية، ومن ثم لا تتصادم مع مشاعر الجماهير العريضة، بل فقط مع ادعاءات الإسلاميين السياسية.

مشاركة :