إن قلت إن العلمانية والليبرالية والديمقراطية تتطابق مع مصالح العرب والمسلمين، وتصلح لإدارة شؤونهم وترقى بمجتمعاتهم، لتشابه الظروف الإنسانية والتنموية، ولطابع العصر والزمان، ولأننا مثل غيرنا من البشر، فأنت قد تغضب الإسلاميين العرب المعادين لما يعتبرونه من الغزو الفكري والمبادئ المستوردة، كما ستغضب في الوقت نفسه بعض العلمانيين الذين لا يرون في هذه المبادئ والسياسات حلاً لمشاكل العرب، وبخاصة بعد كوارث الربيع العربي. وإن قلت إن الديمقراطية والليبرالية والعلمانية لا تصلح إطلاقًا لنا ولا نصلح لها، لاختلاف البيئة العربية والإسلامية عن مستلزمات هذه المبادئ الغربية، فأنت كذلك قد تغضب البعض من هؤلاء وهؤلاء. ذلك أن معظمنا في العالم العربي يعرف ما لا يريد، ولكنه لا يعرف ما يريد! وهو لا يدرك الثمن السياسي والحضاري للرفض، ولا المستلزمات الملازمة للقبول! إننا نحلم بنهضة.. على المزاج! نحن نريد نظريات وتطبيقات على مقاسنا، مراعية لكل خصوصياتنا وتراثنا وعاداتنا وعقائدنا.. وربما لمناطقنا السكنية! ويفضل كل منا مدينة فاضلة يحلم بها، وأطرًا حالمة يسيسها بعضهم مشاريع نهضوية، لا يعرف أحد ما هي قوانينها ومستلزماتها، وكيف سيتعامل العالم معها أو تتعامل هي معهم. عدد كبير من الباحثين الغربيين في شؤون الإسلام والشرق الأوسط كذلك، قد يوافق الرافضين لزارعي العلمانية والديمقراطية والليبرالية وغيرها في مجتمعات الشرق الإسلامي، لأنها بصراحة شجيرات لن تنمو وتزدهر وتثمر، حتى لو زرعتها وبعض الثمار معلقة منها كما نرى شجيرات البرتقال والرمان في المشاتل! ولو كانت ستنجح لنجحت منذ غزو نابليون لمصر قبل قرنين.. أو غزو أمريكا للعراق قبل عشرة أعوام! واليوم وقد برز الإسلام السياسي والجماعات السلفية الجهادية، ونشط حزب الإخوان والتحرير في الغرب نفسه، فقد تضاعف اهتمام الباحثين الغربيين بكل ما يتعلق بمجتمعات الشرق الأوسط وأديانه ومشاكله. أحد هؤلاء الذين بحثوا مؤخرًا في هذا المجال، يقول الكاتب حمود حمود في صحيفة الحياة، الألماني فيلفريد روريش، الذي نشر عام 2015 كراسًا بعنوان تسييس الإسلام: الإسلام السياسي والجهادية، وبحث طبيعة علاقة الأصولية بالأفكار التنويرية والعلمانية، التي رأها حكرًا على العالم الغربي والأوروبي. فالكاتب الألماني، يقول الاستاذ حمود حمود، يرى بوضوح أن العلمانية نتاج غربي، تجد مقاومة شديدة ضدها في العالم الاسلامي. (6/2/2016) ويرى الأستاذ حمود أن الباحث الألماني قد وقع بحكمه هذا، ضحية لـ تنميطات استشراقوية، وأنه لا يأخذ بالاعتبار تأثير الصراعات الحالية بين الجماعات الجهادية السنية والشيعية مثلاً وما تترك كل منها في الأخرى من تأثيرات، ويضيف أن صورة العدو تتغير في تعاليم الجهاديين السنة والشيعة على حد سواء، ويعتقد الأستاذ حمود جازمًا بأنه إذا كان الإسلام الجهادي السني يخضع لاختبار تحولي تاريخي، ربما يجهز عليه، فإن الإسلام الجهادي الشيعي، والسياسي الشيعي أيضا، سواء في إيران أم خارجها، يشهد كذلك لتحولات دراماتيكية من الصعب أيضا التنبؤ بمصائرها.. (والتي يمثل التنبؤ بها ضربًا بالرمال)، وذلك بالنظر للتحول الذي تشهده إيران في تحالفاتها الجديدة مع الشيطان الأكبر: أمريكا، هذا التعبير الذي انتهت إيران نفسها لتوها من صياغته. غير أن الأستاذ حمود لا يترك مسافة كافية لاحتمال تراجع هذا الاحتقان، وعودة الإسلاميين إلى قواعدهم الفكرية الأساسية، حيث تتراكم في خزائنهم كتب ونصوص وثوابت، في فكر أوسع أحزابهم انتشارًا كالإخوان المسلمين والسلفيين والخمينيين والتحرير وأتباع فكر قطب والمودودي وجماعات كثيرة أخرى في كل دولة عربية وإسلامية، وهي كتب لن ترحب بالعلمانية والديمقراطية والليبرالية، حتى لو تمت إزاحة التهديد المذهبي المنافس! ومشكلة الديمقراطية والعلمانية لا تنحصر بالإسلاميين في العالم العربي، فهناك مثقفون وكتاب قوميون وتقدميون وتنمويون يعادون بعض تجلياتها، كما هو معروف. فما المخرج؟ رفض العالم العربي والإسلامي للمبادئ السياسية الحديثة وأفكار العولمة الحضارية يضع المسلمين أمام ثلاثة خيارات في اعتقادي: 1- دولة تخلط بين الشريعة الإسلامية والتراث القومي من عادات وتقاليد وبين القوانين العصرية المحلية والدولية، كما هو حال معظم دول العالمين العربي والإسلامي اليوم. 2- نماذج الدولة الموجهة التي يقترحها بعض المثقفين، أو الدولة التي تقترحها جماعات الإسلام السياسي وبخاصة الإخوان المسلمين وحزب التحرير والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي قائمة على الأرجح، على مظاهر الحداثة السياسية، المفرغة من المفاهيم الدولية في الديمقراطية والليبرالية والعلمانية وحقوق الإنسان، كالتي نراها في الدول الأوروبية والغربية واليابان مثلا. فهي أنظمة قمعية بقفازات حريرية في أحسن الأحوال. 3- نموذج الدولة الإسلامية كما تريدها الجماعات السلفية الجهادية والمجموعات الإرهابية كالقاعدة وداعش والنصرة، والتي هي بمثابة أقصى نماذج الإسلام الشمولية والتسلطية العنيفة، التي تعزل المسلمين عن كل العصر والحقوق والمنجزات الحضارية، وتعيدهم قرونا إلى الوراء، وتعدهم بمستقبل مجهول. نحن في المشرق العربي والإسلامي، لا نريد للأسف دولة الاستقرار والإنتاج والقيادة العصرية المسؤولة، بقدر ما نلهث ربما خلف نماذج الزعامة والقوة والوجاهة والانتقام والسلطان! أم تراني هنا كذلك، بجانب الألماني روريش، ربما ضحية أخرى.. للتنميطات الاستشراقوية؟!
مشاركة :