الغوص وصيد اللؤلؤ من الصناعات التي ازدهرت قديمًا في البحرين خصوصًا وكذلك دول الخليج العربي من دولة الإمارات العربية المتحدة جنوب شرق إلى دولة الكويت شمالاً، حيث اشتغل السُكان بهذه المهنة على مدى عقودٍ من الزمن استمرت في البحرين إلى النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، حيث كان آخر موسم غوص رسمي في البحرين. لقد لعبت صناعة الغوص وصيد اللؤلؤ دورًا رئيسًا ومؤثرًا في التاريخ البحري لمملكة البحرين منذ القِدم، فقد أشارت المخطوطات القديمة إلى لؤلؤ البحرين (دلمون) منذ نحو 2000 سنة قبل الميلاد، إبان حكم الآشوريين لبلاد الرافدين، ثم توالى الاهتمام باللؤلؤ الطبيعي البحريني على امتداد الحضارات التي مرت بالمنطقة على مر العصور.وفي العصر الحديث، كان صيد اللؤلؤ والمُتاجرة به واحدًا من ثلاثة روافد رئيسة للاقتصاد الوطني إلى جانب صيد الاسماك والزراعة قبل اكتشاف النفط بالبلاد في 1932م ودخول البحرين إلى حقبة جديدة من التنمية الاقتصادية. وكان نِتاج ذلك أن ترسخت مهنة صيد اللؤلؤ في جميع مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والتراثية للبحرين إلى الوقت الحالي. في خِضم رعايته وحضوره الشخصي لفعاليات مهرجان الغوص واللؤلؤ الذي أقيم في 4 أكتوبر 1999م، وجه عاهل البلاد يحفظه الله ويرعاه، إلى إحياء صناعة استخراج اللؤلؤ الطبيعي من مغاصات البحرين، وتجميع مقتنياته التاريخية النادرة. كما وجه جلالته إلى إعادة الاهتمام العالمي باللؤلؤ البحريني اقتصاديًا وفنيًا كإحدى الجواهر الكريمة النادرة. لقد كانت مبادرة سامية تعكس الاهتمام الذي توليه القيادة الرشيدة لهذا القطاع الحيوي، فعلى الصعيد الحكومي، أخذت الدولة على عاتقها مهمة حماية سمعة وجودة اللؤلؤ الطبيعي البحريني واللؤلؤ الطبيعي المُستورد على حدٍ سواء، بإنشاء مختبر البحرين لفحص اللؤلؤ والأحجار الكريمة ذات القيمة، الذي أنشئ بموجب المرسوم بقانون رقم (10) لسنة 1990, تحت مظلة وزارة التجارة والزراعة آنذاك، وكان من مهامِه فحص اللؤلؤ وإصدار الشهادات المُعتمِدة لجودة اللؤلؤ الطبيعي المُتداول في السوق المحلي، في مسعى حميد للإبقاء والمحافظة على رونق تجارة اللؤلؤ الطبيعي وضبط أسعاره مقابل اللؤلؤ المُستزرع المحظور التداول به قطعيًا في أسواق البحرين بموجب المادة رقم (5) من المرسوم بقانون آنف الذكر. إنه من دواعي الفخر أن جودة مخرجات مختبر البحرين لفحص اللؤلؤ والأحجار الكريمة ذات القيمة، قد باتت تحظى بِصيتٍ واسع النطاق وكسبت ثقة تجار اللؤلؤ ليس على الصعيديين المحلي والإقليمي فحسب بل حتى في أسواق اللؤلؤ حول العالم. وتأصيلاً للخبرة المكتسبة في فحص اللؤلؤ الطبيعي والأحجار الكريمة ذات القيمة، فقد جرى إجراء تعديل إداري تم بموجبه انضواء المختبر تحت مظلة شركة ممتلكات البحرين القابضة وتغيير مسماه إلى «معهد البحرين للؤلؤ والأحجار الكريمة (دانات)» ليكون أحد الأذرع التجارية لاستثمارات الدولة إيمانًا من الأخيرة بالدور الذي يُمكن أن يلعبه فحص اللؤلؤ والأحجار الكريمة ذات القيمة في التنمية الاقتصادية لمملكة البحرين، وعلاقتها مع أسواق اللؤلؤ في ما وراء البحار. أما على الصعيد الشعبي، فمنذ النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي استمر العشرات وربما المئات من البحارة وهواة صيد اللؤلؤ يقومون بجمع محار اللؤلؤ من المناطق البحرية القريبة بهدف الاسترزاق مما قد يحتويه من لؤلؤ، وربما كثير من الأفراد الجُدد قد انخرطوا بهذا العمل كليًا أو جزيئا في العشرين سنة الماضية استجابة للتوجيه الملكي بهذا الشأن في سنة 1999م كما سبقت الإشارة. أما وقد تزايدت أعداد من يعملون على صيد اللؤلؤ على مر السنين، فقد كان من الأهمية بمكان سنّ تشريع يُنظم هذه المهنة ويقننها بما يخدم الصالح العام. صدر في الربع الثاني من العام الماضي عن وزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني، القرار رقم (43) لسنة 2017, بشأن تنظيم صيد واستخراج اللؤلؤ. جاء القرار في 22 مادة وشملت مواده جملة من الإجراءات الإدارية التي تنظم العمل في هذا المجال. من الأمور التنظيمية الحميدة التي نص عليها القرار هو تحديد حصة الأفراد على متن السفن أو القوارب التي تبحر بغرض صيد محار اللؤلؤ، بواقع 60 محارة لكل غواص في الرحلة. وبالرغم من عدم علمِنا بالمعايير التي على أساسها جرى تحديد تلك الحصة، حيث لم يشر القرار إلى تلك المعايير، إلا أننا نرى أن مقدار الحصة معقول من حيث المبدأ في الوقت الراهن، على أن تخضع للمراجعة والتقييم فيما بعد من قِبل مجلس الغوص واللؤلؤ الذي كان مما خولها المرسوم رقم (27) لسنة 2011, مهمة دراسة طبيعة البيئة البحرية للهيرات والمغاصات واقتراح وسائل الاستثمار والمحافظة عليها من التدهور وانخفاض كفايتها، وذلك على طريق وضع الضوابط اللازمة للحد من سوء استخدامها أو استنزافها، وغيرها من اختصاصات. إن صدور القرار آنف الذكر هو خطوة في الاتجاه الصحيح للاستغلال الرشيد لمحار اللؤلؤ، ومن الأهمية بمكان أن يُصاحب ذلك بإجراءات وآليات لمراقبة تنفيذه من أجل تنظيم أفضل لمورد محار اللؤلؤ، وهو مطلب جوهري في هذه المرحلة المبكرة من تطبيق العمل بالقرار. من الأمور الأساسية التي ينبغي أن تؤخذ بنظر الاعتبار في إجراءات المراقبة، ما يلي: لقد عيّن القرار (43) لسنة 2017, حدًا أعلى لعدد المحار المسموح به لكل غواص في كل رحلة بحرية كما سبقت الإشارة، إلا أن القرار نفسه لم يحدد سقفًا أعلى لعدد رخص صيد اللؤلؤ التي تصدرها إدارة الثروة السمكية بوزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني، وهذا من شأنه فتح الباب على الغارب لدخول أفرادٍ جُدد لمزاولة هذا النشاط، وما قد يصاحبه من إحداث ضغوط متزايدة على مخزون محار اللؤلؤ في أماكن تواجده بمغاصات اللؤلؤ في عرض البحر والمناطق الساحلية والضحلة القريبة من اليابسة، علمًا بأن عدد رخص صيد اللؤلؤ التي صدرت للأفراد إلى الآن قد بلغت 1980 رخصة على الأقل. صحيح أن محار اللؤلؤ موجود في المغاصات البعيدة عن اليابسة بكميات كبيرة تصل إلى الملايين كما هو الحال في مغاصات بولثامه وبوعمامه، التي قٌدِر بهما عدد المحار بـ 428.5 مليونا و481.9 مليونا، على التوالي، وفق ما كشفته نتائج الاستكشافات والمسوحات البحرية في مغاصات اللؤلؤ البحرينية التي قام بها مركز البحرين للدراسات والبحوث، سابقًا، في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي (1985-1990)، إلا أن احتمال تغيرُّ أرقام أعداد المحار من مغاصٍ إلى آخر بل حتى في المغاص نفسه يبقى قائمًا جراء التغيرات البيئية التي ربما تكون قد طرأت على بيئة المغاصات على مدى نحو ثلاثة عقود منذ انتهاء أعمال الاستكشافات آنفة الذكر. تجدر الإشارة هنا، الى أن نسبة وجود اللؤلؤ في المحار بالمسوحات البحرية المذكورة قد بلغت نحو 5% من إجمالي كميات المحار التي جرى جمعها آنذاك. من جهة أخرى، فإنه لا ضير من الاستمرار في جمع المحار من المغاصات في عرض البحر آخذين بنظر الاعتبار كمية المخزون المتاح منه، إلا أن الحذر في الصيد يجب أن يطال أماكن تواجد المحار في المناطق الساحلية والضحلة القريبة من الساحل في ضوء عدم وجود بيانات تستند إلى دراسات بشأن كثافة محار اللؤلؤ في المناطق المذكورة. بناءً على ما تقدم وحيث أن معظم الصيادين ربما يجمعون المحار من المناطق القريبة، أرى أن الضرورة تقتضي توثيق حصيلة محار اللؤلؤ المُصطاد من عرض البحر والمناطق القريبة من الساحل في كل رحلة، في سجلات (Logbooks) تُصدِرها إدارة الثروة السمكية وتُلزِم جميع حاملي رخص صيد اللؤلؤ بتوثيق بيانات رحلات الغوص بها، على أن تشمل السجلات بيانات مثل: تاريخ الرحلة البحرية، موقع جمع المحار (احداثيات خطوط الطول والعرض)، كمية المحصول من محار اللؤلؤ، وكمية اللؤلؤ المتحصل عليها، وأية بيانات أخرى مساندة، على أن تُعتمد تلك السجلات من مكاتب إدارة الثروة السمكية الموجودة في مرافئ تنزيل الصيد البحري المنتشرة حول سواحل البلاد. أما الصيادون الذين يستخدمون مرافئ ليس بها مكاتب للإدارة المذكورة، فينبغي عليهم تبليغ القسم المختص في المكتب الرئيس للإدارة عن بيانات محار اللؤلؤ المُصطاد، وهذا بطبيعة الحال يتطلب تعاون الصيادين بهذا الخصوص. إن من شأن آلية التنظيم هذه هو إنشاء قاعدة بيانات بكميات محار اللؤلؤ المُصطادة من أماكن تواجد المحار المختلفة، تكون تحت تصرف مجلس الغوص واللؤلؤ ويستند إليها عند التقييم والمراجعة الدورية لحالة مغاصات اللؤلؤ من حيث وفرة المحار وإنتاجيتها من اللؤلؤ للحؤول دون حدوث صيد جائر أو استنزاف لمورد محار اللؤلؤ. كانت تلك بعض الروئ الرامية إلى المساهمة في الحفاظ على مخزون المحار في مغاصات اللؤلؤ البحرينية، القائمة على مبدأ الاستفادة من الموارد المتاحة من محار اللؤلؤ بشكلٍ رشيد، من جهة، والمحافظة على جزءٍ من المحار من أجل التكاثر وإنماء المخزون، من جهة أخرى، وتحقيق مبدأ التنمية المستدامة وفقًا لذلك. mj.alrumaidh@gmail.com
مشاركة :