«درم» مدينة تحبني وأحبها

  • 12/19/2014
  • 00:00
  • 17
  • 0
  • 0
news-picture

إن الأمانة العلمية تقتضي أن أقول درم مدينة أظنها تحبني، ولكني أجزم أنني أحبها. أحب هذا الامتزاج بين أصوات أجراس الكاثيدرل وأذان مسجد درم، تحت زخات حبات المطر، امتزاج الطهر بالمطر وأنت تحتسي قهوتك، إحساس يصل بك إلى ذروة النشوة فتعلن بعدها حدادك على التعبير. اختلف الشباب حول تسميتها، فتجد من يطلق عليها درهام، وآخر يطلق عليها دار الهم. أذكر أننا كنا نجتمع مجموعة من الاخوة في غرفة صغيرة لصلاة الفجر في مبنى سكن الطلاب الكيينن هاوس، وفي مرة بعد أن فرغنا من الصلاة، التفت إلي أخي أبوخالد وكان حينها في آخر سنة من دراسة الدكتوراة، كان يبات مهموما ويصبح مستعدا للهم من ضغط الدراسة، فأحببت أن أداعبه قليلا فقلت أبا خالد إذا خيم عليك الهم فعليك بإطعام الفم، فالتفت إلي مبتسما ثم قال وعليك أيضاً بلعن درم. على أي حال تختلف التسميات باختلاف العامل النفسي للشباب. إلا أن الحقيقة أن اسم درهام وتنطق (درم) بتسكين الهاء والألف مركبة من كلمتين إنجليزيتين قديمتين معناها جزيرة التلال، قيل لأنها تحتضنها سبع تلال وفي رواية أخرى إحدى عشرة تلة، إلا أن الأرجح هو سبع. وهي تقع في الشمال الشرقي لإنجلترا قريب حدود اسكوتلاندا. ماذا عساني أن أقول عن مدينة تناثرت روحي فيها، فما من موضع شبر إلا وتجد روحي قد استقامت تستحضر ذكرى حزن وهم وسهر، أو ذكرى صفاء وفرح، أو بين هذا وذاك، كما قال الأخطل الصغير «يبكي ويضحكُ لا حزناً ولا فرحاً كعاشقٍ خطّ سطراً في الهوى ومحا». ماذا أستطيع أن أقول عن مدينة شهدت مولد ابنائي ريما وعبدالرحمن، لا أنسى أبدا تلك الصرخات التي أطلقها قلبي حينما بشرت بابنتي البكر، ولا أنسى تلك الدموع التي هطلت ولم تتوار من القوم خجلا أو حياء. أو ماذا عساني أن أقول عن مدينة كنت فيها طالبا أمضى نهاره مع ليله إلا قليلا بين كتب ودفاتر قد تشربت عرقه وكره (السبريسو) وهو من أنواع القهوة الشهيرة الذي كاد إلى حتفه يسوقه. إلا أن درم مع هذا كله تظل تسافر في دمي وتستقر بين أضلعي. يقول بيل برايسون الكاتب الأمريكي الشهير الذي عين رئيسا للجامعة في عام ٢٠٠٥ تكريما له عندما وصف درم بالمدينة الصغيرة المثالية في كتابه (ملاحظات من جزيرة صغيرة Notes from a small island). يقول في ثنايا كتابه نزلت في محطة درم آتيا من الولايات المتحدة، فبعد أن تجولت في مدن الجنوب، وطفت في شوارعها أحببت أن أرتحل الى الشمال وما أن وقعت قدماي في محطة درم، إلا وسقطت في حبها على الفور، دون أي مقدمات وبطريقة لا عقلانية، ثم يسترسل قائلا إذا أنت لم تزرها في حياتك فخذ سيارتي على الفور، وانطلق وأكبر الظن أنك لن ترجع. أذكر عندما كنت في حفل التخرج لمجموعة من الأصدقاء في عام ٢٠١١. وكان حفل التخرج يقام داخل كنيسة (الكاثيدرل) التي يقدَّر عمرها بأكثر من ثمانمائة سنة في منظر مهيب. كان أعضاء الجامعة يرتدون زيا خاصا لمثل هذه المناسبات. كان برايسون آخر سنة له في الجامعة ليغادر بعدها ويتفرغ للكتابة فبعد خطاب طويل يسحرك بلغته الأدبية العالية الساخرة في كثير من الأحيان، تقدم قليلا إلى الطلاب، وقال سوف احتفظ الى الأبد بأجمل الأوقات التي قضيتها بين أركان هذه الجامعة، أو في أحضان هذه المدينة الجميلة الساحرة، ثم رفع قبعته الحمراء المشربة بالسواد، وقال أعطي دون تردد مدينة الكثيدرل درم تصويتي؛ للحصول على أفضل مدينة على كوكب الأرض. سكت قليلا بعد أن تغيرت نبرة صوته، ثم استرسل وقال سوف افتقدك يا حبيبتي لكنه حان وضع النهاية. وأنا بدوري أقول لن أنساك يا جميلتي، ستبقى كل لحظاتك محفورة في قلبي، إلا أنه حان وضع النهاية. محلل سياسي

مشاركة :