الفلسطينيون بين النقد وجلد الذات

  • 8/2/2018
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تحتاج التجربة الفلسطينية إلى المراجعة لتقييم الأداء السياسي، ليس على مدى خمسة عقود من عمر تجربتها الحديثة فحسب، بل على مدى القرن العشرين كاملاً، وهي تحتاج إلى ما هو أكثر من المراجعة، إلى إعادة كتابة تاريخ التجربة، على رغم أن هذه التجربة لم تنتهِ بعد. ولا شك في أن التجربة كانت مليئة بالأخطاء التي تحتاج إلى مراجعة ونقد، والنقد بطبيعة الحال يذهب إلى إعادة النظر في القدرة الذاتية على صناعة المستقبل، وعندما يتم الاستنكاف عن صناعته على الوجه الأفضل، فإن ذلك يحتاج إلى النقد، بل إلى النقد القاسي، حتى يتم التعلم من التجربة ولا يتم تكرارها. بهذا المعنى، إعادة النظر ونقد أي تجربة لهما فوائد كبيرة، لأن الحاضر وليد الماضي، والمستقبل وليد الحاضر، بالتالي، هناك ترابط وثيق بين الماضي والمستقبل عبر جسر الحاضر. لكن هناك فرقاً كبيراً بين مراجعة التجربة ونقدها، وبين جلد الذات بوصفها مسؤولة عن أحداث تاريخية كان يمكن تجنبها، في الوقت الذي كانت هذه الأحداث أكبر من القدرات الذاتية على التأثير. وحتى لا يبقى الحديث في الإطار النظري، فإن التجربة الفلسطينية هي المثل الحي على الخلط بين جلد الذات والنقد الموضوعي. واليوم في ظل تردي الوضع الفلسطيني والأخطار التي يتعرض لها، يلوم البعض الذات الفلسطينية على مجريات الأحداث بوصف الفلسطينيين الطرف الفاعل الذي يملك القدرة على تغيير مجرى الأحداث لو كان الأداء السياسي الفلسطيني مختلفاً. ويبدأ جالدو الذات أمثلتهم من تجربة النكبة عام 1948، وتحديداً يحملون ما جرى إلى الفلسطينيين لأنهم رفضوا قرار التقسيم الرقم 181 الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947. وتعتبر هذه الأقلام أنه لو وافق الفلسطينيون على هذا القرار لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه من واقع مترد. وأن السلام كان يمكن تحقيقه في المنطقة منذ وقت طويل لو كان الموقف الفلسطيني مختلفاً، ولكنّا حققنا الدولة الفلسطينية على رقعة جغرافية من أرض فلسطين تبلغ ضعف المساحة التي يطالب بها الفلسطينيون اليوم لإقامة دولتهم على الضفة الغربية وقطاع غزة، ما يعني: لو أن الفلسطينيين أقروا بالواقع القائم في ذلك الوقت لقامت الدولة الفلسطينية منذ وقت طويل ولتجنبنا الكثير من سفك الدماء الذي جرى في الحروب التي شهدتها المنطقة منذ ذلك القرار. على رغم إدراكي أن التاريخ لا يمكن تحليله عبر «لو» التمني، أو استبدال مسار تاريخي بآخر افتراضي، وأن تحليل التاريخ يقوم على درس المعطيات التاريخية التي جعلت التاريخ يسير في الطريق الذي سار عليه، لأن هذا الطريق تصنعه عوامل موضوعية، لا تمنيات مسقطة على التاريخ لتجنب وقائع قاسية اليوم... فهذا لا يعيب مناقشة هذا الافتراض الذي يحاول أن يجر نفسه على واقع اليوم، طالباً من الفلسطينيين التعامل مع «الواقع القائم» الذي يعني اليوم «صفقة القرن». لو وافق الفلسطينيون على قرار التقسيم ووافقوا على كل الشروط المجحفة في حقهم وفي وطنهم من اقتطاع أكثر من نصفه ومنحه للعصابات الصهيونية، لما قامت الدولة الفلسطينية. فالقضية في ذلك الحين لم تكن «الدولة الفلسطينية»، بل على العكس، كانت القضية «الدولة اليهودية» الذي وجد التحالف الدولي المنتصر في الحرب العالمية الثانية نفسه يحل إحدى مشكلاته الداخلية على حساب الشعب الفلسطيني، بخلق دولة يهودية في فلسطين. ولم يكن هذا الكسر لتاريخ المنطقة ممكناً من دون توافق الدول المنتصرة في تلك الحرب على قيام «دولة إسرائيل» التي كانت في حاجة إلى قرار دولي من أجل وجودها، ومن تشريع الاغتصاب الصهيوني لأراضي فلسطين، ومحاولة إعطائه شرعية عبر تكريس هذه الدولة في قرار للأمم المتحدة. في معنى آخر، كان الحدث التاريخي على الأرض الفلسطينية أكبر من موافقة أو رفض الفلسطينيين القرار 181. وهذا لا يمنع مراجعة التجربة الفلسطينية ونقدها، ولكن بما لا يغير في قراءة المعطيات الموضوعية للحظة التاريخية التي وقعت فيها الأحداث. لقد تقاطعت معطيات ووقائع تاريخية كثيرة لصناعة الكارثة الفلسطينية عام 1948، وكان الفلسطينيون والتخلف الذي يعيشونه يتحملون جزءاً من المسؤولية عما جرى، ولكنه الجزء غير الحاسم من القصة. وأي نقد يمكن توجيهه إلى التجربة الفلسطينية وإلى القيادات الفلسطينية، لا يبرر الجريمة التي ارتكبت بحق الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم وتشريدهم. وليس تخلف الشعب، أي كان، سبباً لتدميره واقتلاعه من أرضه والاستيلاء على وطنه. لقد تعرضت فلسطين والفلسطينيون لخطر أكبر من قدرتهم على التصدي له، تقاطع دولي غريب من نوعه، لم يتوافق على جريمة تدمير الوطن الفلسطيني وسحقه فحسب، بل وشرّع هذا التدمير. بالطبع، لا تمكن معالجة موضوع كبير مثل النكبة في هذه العجالة، ولكن ما نريد أن نقوله، أن جلد الذات بتحميل الفلسطينيين وحدهم المسؤولية عما يحصل لهم، كأنه لا وجود للاحتلال، هو جلد لا مبرر له. مهما كانت المسؤولية التي يتحملها الفلسطينيون، فهم في نهاية أي تحليل ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، وأي قلب للمعادلة، هو جلد للذات ومعاقبة الضحايا، من دون أن يمنع ذلك الحق في نقد الطرف الفلسطيني الذي يحتاج إلى الكثير من النقد. * كاتب فلسطيني

مشاركة :