غَلَبَتِ السيرةُ الذاتيةُ في نفوذها الأجناسي أكثر الأنواع السيرية المنضوية تحتها قسراً، وصارت في بسط سيطرتها كالمتحكم في أكثر أنواع السيرة بمفهومها الأعم، حتى ضاعت السيرة الغيرية في هذا الخضم، وانصهرت - كما هو حال غيرها من الأنواع السيرية الأخرى - ضمن قانون السيرة الذاتية المتسلط، الذي راح يلتهم كل سيرةٍ غيرية، حتى صار كثيراً من نقادها، والباحثين في فلكها ينجرفون في نسقٍ من الابتلاع، جعلهم يضمون كل سيرة غيرية إلى السيرة الذاتية، رغم أن لكل منهما خطه البيّنُ الذي يميّزه. ولئن أجمع أكثر المهتمين بالأدب السيري على انقسامه إلى نوعين: ذاتي، وغيري، فإنهم عند التطبيق على مشرحة النقد لا يراوحون البحث في غير الذاتي، مع أن (فيليب لوجون) الناقد الذي وضع حدوداً فاصلة لهذا الجنس الأدبي قد نصّ في ميثاقه أن السيرة الذاتية إنما هي «حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركّز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته» وهو قانونٌ لا يعيره أكثر نقاد السيرة اليوم اهتماماً، ما حدا ببعضهم إلى التوسع في مسألة الالتهام والالتقام حتى راح بعضهم يدرج المذكراتِ، والاعترافات، واليوميات، ونحوها من الأنواع المحاذية، أو المجاورة ضمن السيرة الذاتية، كما لم تسلم بعض الروايات من ذلك التسلط والابتلاع أيضاً. وأظنُّ أن العقّادَ كان محقاً - على الصعيد الإبداعي - حينما نصّ في كتابه (أنا) قائلاً: «ولن أتحدث – بطبيعة الحال – عن عباس العقاد كما يراه الناس، فالناسُ هم المسؤولون عن ذلك، ولكن سأتحدث عن عباس العقاد كما أراه»، وكأنه يريد أن يوصل رسالة إلى المبدعين أولًا، والنقاد ثانياً، مفادها: إن السيرة الذاتية لا بد فيها من صناعة (الأنا) وأن السيرة الغيرية لا بد فيها من صناعة (الآخر) وبين الاثنين تتجلى الحدود والفوارق، وهي حدودٌ وفوارقُ ما زالت غائمةً على بعض النقاد والباحثين، وهذا السبب – في ظني – قلّل من الاهتمام بالسيرة الغيرية اليوم رغم كثرة النماذج المطروحة.
مشاركة :