تتربع الجنبية اليمنية على عرش الخناجر العربية، كما تعتبر أحد أبرز عناصر الموروث الشعبي للمجتمع اليمني، ولا تزال من مكوّنات الزيّ التقليدي للرجال في الكثير من المناطق اليمنية، مكتسبة شهرتها من ثقافة المجتمع وتفاخره باقتناء السلاح الأبيض الذي اشتهر اليمن بصناعته عبر التاريخ، فتعددت أنواعه ومسمياته. ورغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها اليمنيون في زمن الحرب مازالوا يتمسكون بالجنبية التي صارت تصنع من مخلّفات وخردة الحرب حجة (اليمن) – تحوّلت مخلّفات الحرب الطاحنة الدائرة في اليمن منذ سنوات إلى مصدر لصناعة الخناجر التقليدية، المعروفة باسم “الجنبية”، في مدينة حجة في غرب هذا البلد الفقير. فوسط المعارك المستمرة، يتّجه الحرفيون في ورش الحدادة في مدينة حجة، عاصمة المحافظة التي تحمل الاسم ذاته، إلى مخلّفات الصواريخ والقنابل والقذائف لصناعة الخناجر. ويشهد اليمن منذ 2014 نزاعا مسلحا بين المتمردين الحوثيين والقوات الموالية لحكومة معترف بها دوليا تحظى بالشرعية منذ مارس 2015. وتعتبر “الجنبية” الذي يعود تاريخها إلى الآلاف من السنين جزءا من اللباس التقليدي في اليمن، وتتعدد أنواعها ومسمياتها، إلا أن “الجنبية العزيرية” تحتل منذ سبعينات القرن الماضي مركز الصدارة لجوانب ومميزات فنية في صناعتها يعرفها المهتمون. وعلى مدى قرون، ظل اليمنيون يتفاخرون بحمل الجنبية ذات الأثمان الغالية، والتي تنتقل من الآباء إلى الأبناء وعلى مدى أجيال عديدة، ويعود التمسك والاحتفاظ بها إلى كونها ترمز إلى المستوى الاجتماعي والقبلي لهذه العائلة أو تلك، وقد يصل سعرها إلى مليون دولار، حين يكون مقبضها من الخشب النادر أو العاج، أو حين يُرصّع بالألماس أو الأحجار الكريمة. ويعتبر العارفون بأصول هذه الصناعة وتجارها الذين ورثوا هذه الحرفة أبا عن جد، الجنبية المصنوعة من قرن وحيد القرن تعد “أغلى من الذهب لضمان ارتفاع قيمتها المادية كلما مرت السنون ودون أن تتأثر بأي من الظروف”، مؤكدين أن الجنبية ذات التاريخ سواء تلك التي في الخليج أو في سواها أصلها ومنبعها اليمن. الحاجة أم الاختراعالحاجة أم الاختراع ويشير الخبير والتاجر عبدالله بن عبدالله العزيري، إلى أن الدراسات والآثار، تؤكد أن للجنبية تاريخ عريق إذ وجدت منذ ستة آلاف سنة، وأن النقوش والصور تظهر ملوك سبأ وحمير وغيرهم متمنطقين بالجنبية. ولفت إلى أن المرحلة الأولى لصناعة الجنبية بدأت حسب الشواهد باستخدام قرن وحيد القرن كمقبض للسيوف والخناجر قبل أن يتحول إلى الجنبية في عهد الملك أسعد الكامل. ويربط العزيري الذي ورث مهنة صناعة الجنبية عن أبائه وأجداده الذين مارسوها من قبل أكثر من 1100 سنة، القيمة التاريخية والصحية والاجتماعية للجنبية بصناعة رأسها من قرن وحيد القرن. وقال بهذا الخصوص، إن لقرن وحيد القرن خصائص كبيرة كونه يكشف السم في الطعام إذا استخدم كإناء، كما يستخدم في الكثير من العلاجات الطبية، كما هو حاصل في الصين والهند وغيرهما من البلدان. ويحاول العزيري التدليل على هذا الجانب بذكر قصة حدثت قبل العشرات من السنين لأحد عمال جده بتعرضه للدغة ثعبان فأسرع الجد ووضع رأس الجنبية على موضع اللدغة وانتزع السم، وهذه قصة متداولة ومشهورة عند الكثير من بائعي الجنابي في صنعاء. في السنوات الأخيرة، أدخلت الحرب تعديلات على هذه الصنعة، يقول الحرفي محمد حرضي، إنه منذ بداية النزاع في بلده، قام مع آخرين بجمع مخلّفات الحرب، لصناعة خناجر “الجنبية” والسكاكين والسيوف. ويوضح وهو يدق بمطرقته قطعة معدنية خرجت لتوها من النار، “هذه المعادن ليست ثمينة، لكنها ذات نوعية ممتازة”. وولّدت الرغبة في إعادة تدوير مخلّفات الحرب بسبب قلة توفّر الحديد والصلب في زمن الحرب التي تعطل استيراد أنواع كثيرة من المواد وبينها المعادن، وفقا لعلي خبس، أحد سكان حجة الذي يقول “الحاجة أم الاختراع”. تطويع الحديد أفضل من نار الحربتطويع الحديد أفضل من نار الحرب ويقول الحرفي يحيى حسين، “نجمع المخلّفات، أو نشتريها بالكيلوغرام”، مشيرا إلى، “إقبال كبير على شرائها”. ورغم ذلك، يشرح شخص آخر من سكان المدينة أن جمع المخلّفات ليس سهلا بسبب الغارات المستمرة. ويضيف أن بعض اليمنيين “يشترون ‘الجنبية’ المصنوعة من هذه المعادن من أجل حملها، بينما يشتريها آخرون من أجل الزينة، أو حتى من أجل الاحتفاظ بذكرى مادية من الحرب”. ويتابع أن الإقبال على هذه الخناجر كبير رغم المصاعب المالية التي يواجهها اليمنيون بسبب النزاع وانهيار الاقتصاد والبطالة المنتشرة بين السكان وتراجع قيمة العملة المحلية. ويبلغ سعر “الجنبية” المصنوعة من مخلّفات الحرب نحو 20 ألف ريال يمني (حوالي 80 دولارا). وبينما يشتري اليمنيون الأثرياء الخناجر المصنوعة محليا والمرصّعة بالأحجار الكريمة، يعمد الفقراء إلى حمل خناجر مقلّدة يجري استيرادها من الصين. وحطم الصينيون هيبة الموروث التاريخي اليمني، وبدأوا بتصدير جنابي مقلدة إلى أسواق اليمن. ويعتقد البعض أن انتشار الجنبية المصنوعة في الصين خلال السنوات الأخيرة يرجع إلى الظروف الاقتصادية والمعيشية، حيث إن الكثيرين فضلوا التنازل عن التباهي بالجنبية الفاخرة وغالية الثمن مقابل عدم التخلي عن هذا اللباس كجزء يميز الشخصية اليمنية. ويقول التجار، إن هذه الجنبية المقلدة بدأت تنتشر منذ ست أو سبع سنوات تقريبا، حيث يقبل الناس عليها لكونها غير مكلفة، حيث تتراوح أسعارها من 10 إلى 20 دولارا أميركيا فقط. ومهما يكن فإن تعدد أنواع الجنابي في اليمن وتعدد وظائفها واستخداماتها وموادها الخام وتفاوت أسعارها، لا يلغي أنها لا تزال تمثل جزءا أساسيا من مكون الشخصية اليمنية، ومبعث فخرها.
مشاركة :